الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( 39 ) )

يقول تعالى ذكره : أذن الله للمؤمنين الذين يقاتلون المشركين في سبيله بأن المشركين ظلموهم بقتالهم .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة : ( أذن ) بضم الألف ، ( يقاتلون ) بفتح التاء بترك تسمية الفاعل في أذن ويقاتلون جميعا . وقرأ ذلك بعض الكوفيين وعامة قراء البصرة : ( أذن ) بترك تسمية الفاعل ، و " يقاتلون " بكسر التاء ، بمعنى يقاتل المأذون لهم في القتال المشركين . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض المكيين : " أذن " بفتح الألف ، بمعنى : أذن الله ، و " يقاتلون " بكسر التاء ، بمعنى : إن الذين أذن الله لهم بالقتال يقاتلون المشركين . وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعنى; لأن الذين قرءوا أذن على وجه ما لم يسم فاعله يرجع معناه في التأويل إلى معنى قراءة من قرأه على وجه ما سمي فاعله - وإن من قرأ يقاتلون ، ويقاتلون بالكسر أو الفتح ، فقريب معنى أحدهما من معنى الآخر - وذلك أن من قاتل إنسانا فالذي قاتله له مقاتل ، وكل واحد منهما مقاتل . فإذ كان ذلك كذلك فبأية هذه القراءات قرأ القارئ فمصيب الصواب .

غير أن أحب ذلك إلي أن أقرأ به : أذن بفتح الألف ، بمعنى : أذن الله ، لقرب ذلك من قوله : ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) أذن الله في الذين لا يحبهم للذين يقاتلونهم بقتالهم ، فيرد أذن على قوله : ( إن الله لا يحب ) [ ص: 643 ] وكذلك أحب القراءات إلي في يقاتلون كسر التاء ، بمعنى : الذين يقاتلون من قد أخبر الله عنهم أنه لا يحبهم ، فيكون الكلام متصلا معنى بعضه ببعض .

وقد اختلف في الذين عنوا بالإذن لهم بهذه الآية في القتال ، فقال بعضهم : عني به : نبي الله وأصحابه .

ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) يعني محمدا وأصحابه إذ أخرجوا من مكة إلى المدينة ; يقول الله : ( وإن الله على نصرهم لقدير ) وقد فعل .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال رجل : أخرجوا نبيهم ، فنزلت : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الآية ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن [ ص: 644 ] عباس ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكن - قال ابن عباس : فأنزل الله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال . وهي أول آية نزلت . قال ابن داود : قال ابن إسحاق : كانوا يقرءون : ( أذن ) ونحن نقرأ : " أذن " .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال أبو بكر : قد علمت أنه يكون قتال . وإلى هذا الموضع انتهى حديثه ، ولم يزد عليه .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا محمد بن يوسف ، قال : ثنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال أبو بكر : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ليهلكن جميعا ! فلما نزلت : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) إلى قوله : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) عرف أبو بكر أنه سيكون قتال .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في [ ص: 645 ] قوله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قال : أذن لهم في قتالهم بعد ما عفا عنهم عشر سنين . وقرأ : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) وقال : هؤلاء المؤمنون .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) .

وقال آخرون : بل عني بهذه الآية قوم بأعيانهم كانوا خرجوا من دار الحرب يريدون الهجرة ، فمنعوا من ذلك .

ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قال : أناس مؤمنون خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن الله للمؤمنين بقتال الكفار ، فقاتلوهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قال : ناس من المؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، وكانوا يمنعون ، فأدركهم الكفار ، فأذن للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم . قال ابن جريج : يقول : أول قتال أذن الله به للمؤمنين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : في حرف ابن مسعود : " أذن للذين يقاتلون في سبيل الله " قال قتادة : وهي أول آية نزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قال : هي أول آية أنزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا . وقد كان بعضهم يزعم أن الله إنما قال : أذن للذين يقاتلون بالقتال من أجل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكفار إذا آذوهم واشتدوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة سرا; فأنزل الله في ذلك : ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، أطلق لهم قتلهم وقتالهم ، فقال : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) . وهذا قول ذكر عن الضحاك بن مزاحم من وجه غير ثبت .

وقوله : ( وإن الله على نصرهم لقدير ) يقول جل ثناؤه : وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله لقادر ، وقد نصرهم فأعزهم ورفعهم وأهلك عدوهم وأذلهم بأيديهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية