الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( 40 ) )

يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) فالذين الثانية رد على الذين الأولى . وعنى بالمخرجين من دورهم المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة . وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الإيمان بالله ورسوله ، وسبهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم ، حتى اضطروهم إلى الخروج عنهم . وكان فعلهم ذلك بهم بغير حق ، لأنهم كانوا على باطل والمؤمنون على الحق ، فلذلك قال جل ثناؤه : ( الذين أخرجوا من [ ص: 646 ] ديارهم بغير حق ) .

وقوله : ( إلا أن يقولوا ربنا الله ) يقول تعالى ذكره : لم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم : ربنا الله وحده لا شريك له ! فأن في موضع خفض ردا على الباء في قوله : ( بغير حق ) ، وقد يجوز أن تكون في موضع نصب على وجه الاستثناء .

وقوله : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين .

ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) دفع المشركين بالمسلمين .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا القتال والجهاد في سبيل الله .

ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) قال لولا القتال والجهاد .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين .

ذكر من قال ذلك : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمرو ، عن أبي روق ، عن ثابت بن عوسجة الحضرمي ، قال : حدثني سبعة وعشرون من أصحاب علي وعبد الله منهم لاحق بن الأقمر والعيزار بن جرول وعطية القرظي ، أن عليا رضي الله عنه قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) لولا دفاع الله بأصحاب محمد عن التابعين ( لهدمت صوامع وبيع ) .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لولا أن الله يدفع بمن أوجب قبول شهادته في الحقوق تكون لبعض الناس على بعض عمن لا يجوز شهادته وغيره ، فأحيا بذلك مال هذا ويوقي بسبب هذا إراقة دم هذا ، وتركوا المظالم من أجله ، لتظالم الناس فهدمت صوامع .

[ ص: 647 ] ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) يقول : دفع بعضهم بعضا في الشهادة ، وفي الحق ، وفيما يكون من قبل هذا . يقول : لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض ، لهدم ما ذكر ، من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض ، وكفه المشركين بالمسلمين عن ذلك; ومنه كفه ببعضهم التظالم ، كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم; ومنه كفه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق ، ونحو ذلك . وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض ، لولا ذلك لتظالموا ، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم وما سمى جل ثناؤه . ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عنى من ذلك بعضا دون بعض ، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له ، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بينته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا .

وقوله : ( لهدمت صوامع ) اختلف أهل التأويل في المعني بالصوامع ، فقال بعضهم : عنى بها صوامع الرهبان .

ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن رفيع في هذه الآية : ( لهدمت صوامع ) قال : صوامع الرهبان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( لهدمت صوامع ) قال : صوامع الرهبان .

- حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( لهدمت صوامع ) قال : صوامع الرهبان .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( لهدمت صوامع ) قال : صوامع الرهبان . [ ص: 648 ] حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : ( لهدمت صوامع ) وهي صوامع الصغار يبنونها وقال آخرون : بل هي صوامع الصابئين .

ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( صوامع ) قال : هي للصابئين .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( لهدمت ) . فقرأ ذلك عامة قراء المدينة : " لهدمت " . خفيفة . وقرأته عامة قراء أهل الكوفة والبصرة : ( لهدمت ) بالتشديد بمعنى تكرير الهدم فيها مرة بعد مرة . والتشديد في ذلك أعجب القراءتين إلي . لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك .

وأما قوله ( وبيع ) فإنه يعني بها : بيع النصارى .

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم مثل الذي قلنا في ذلك .

ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن رفيع : ( وبيع ) قال : بيع النصارى .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وبيع ) للنصارى .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : البيع : بيع النصارى .

وقال آخرون : عنى بالبيع في هذا الموضع كنائس اليهود .

[ ص: 649 ] ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث . قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ( وبيع ) قال : وكنائس .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وبيع ) قال : البيع للكنائس .

قوله : ( وصلوات ) اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : عنى بالصلوات الكنائس .

ذكر من قال ذلك : - حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وصلوات ) قال : يعني بالصلوات الكنائس .

حدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وصلوات ) كنائس اليهود ، ويسمون الكنيسة صلوتا .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وصلوات ) كنائس اليهود .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

وقال آخرون : عنى بالصلوات مساجد الصابئين .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، قال : سألت أبا العالية عن الصلوات . قال : هي مساجد الصابئين .

قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن رفيع ، نحوه .

وقال آخرون : هي مساجد للمسلمين ولأهل الكتاب بالطرق .

ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، [ ص: 650 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وصلوات ) قال : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وصلوات ) قال : الصلوات صلوات أهل الإسلام ، تنقطع إذا دخل العدو عليهم ، انقطعت العبادة ، والمساجد تهدم ، كما صنع بختنصر .

وقوله : ( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) اختلف في المساجد التي أريدت بهذا القول ، فقال بعضهم : أريد بذلك مساجد المسلمين .

ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود عن رفيع قوله : ( ومساجد ) قال : مساجد المسلمين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، قال : ثنا معمر ، عن قتادة : ( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) قال : المساجد : مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة نحوه .

وقال آخرون : عنى بقوله : ( ومساجد ) الصوامع والبيع والصلوات .

ذكر من قال ذلك : - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( ومساجد ) يقول في كل هذا يذكر اسم الله كثيرا ، ولم يخص المساجد .

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : الصلوات لا تهدم ، ولكن حمله على فعل آخر ، كأنه قال : وتركت صلوات . وقال بعضهم : إنما يعني : مواضع الصلوات . وقال بعضهم : إنما هي صلوات ، وهي كنائس اليهود ، تدعى بالعبرانية : صلوتا .

وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى ، وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا . [ ص: 651 ] وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل ذلك; لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب المستفيض فيهم ، وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فيما وجهه إليه من وجهه إليه .

وقوله : ( ولينصرن الله من ينصره ) يقول تعالى ذكره : وليعينن الله من يقاتل في سبيله ، لتكون كلمته العليا على عدوه; فنصر الله عبده : معونته إياه ، ونصر العبد ربه : جهاده في سبيله ، لتكون كلمته العليا .

وقوله : ( إن الله لقوي عزيز ) يقول تعالى ذكره : إن الله لقوي على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته ، عزيز في ملكه ، يقول : منيع في سلطانه ، لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب .

التالي السابق


الخدمات العلمية