الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( 61 ) قال كلا إن معي ربي سيهدين ( 62 ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( 63 ) )

يقول تعالى ذكره : فلما تناظر الجمعان : جمع موسى وهم بنو إسرائيل ، وجمع فرعون وهم القبط ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) أي إنا لملحقون ، الآن يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا ، وذكر أنهم قالوا ذلك لموسى ، تشاؤما بموسى .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قلت لعبد الرحمن ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) قال : تشاءموا بموسى ، وقالوا : ( أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ) .

حدثنا موسى ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( فلما تراءى الجمعان ) فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رمقهم قالوا ( إنا لمدركون قالوا يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ) اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا ، إنا لمدركون ; البحر بين أيدينا ، وفرعون من خلفنا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : لما انتهى موسى إلى البحر ، وهاجت الريح العاصف ، فنظر أصحاب موسى خلفهم إلى الريح ، وإلى البحر أمامهم ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين ) . [ ص: 356 ]

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى الأعرج ( إنا لمدركون ) ، وقرأه الأعرج : " إنا لمدركون " كما يقال نزلت ، وأنزلت . والقراءة عندنا التي عليها قراء الأمصار ، لإجماع الحجة من القراء عليها .

وقوله : ( كلا إن معي ربي سيهدين ) قال موسى لقومه : ليس الأمر كما ذكرتم ، كلا لن تدركوا إن معي ربي سيهدين ، يقول : سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه .

كما حدثني ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دهم الخيل ، سوى ما في جنده من شية الخيل ، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ، ولم يكن عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين ) أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ، ولا خلف لموعوده .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( قال كلا إن معي ربي سيهدين ) يقول : سيكفيني ، وقال : ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ، وقوله : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) ذكر أن الله كان قد أمر البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بعصاه .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فتقدم هارون فضرب البحر ، فأبى أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ، حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد ، وضربه فانفلق .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : أوحى الله فيما ذكر إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله ، وانتظار أمره ، وأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، ظن سليمان التيمي ، عن أبي السليل ، قال : لما ضرب موسى بعصاه البحر ، قال : إيها أبا خالد ، فأخذه أفكل . [ ص: 357 ]

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، وحجاج عن أبي بكر بن عبد الله وغيره ، قالوا : لما انتهى موسى إلى البحر وهاجت الريح والبحر يرمي بتياره ، ويموج مثل الجبال ، وقد أوحى الله إلى البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بالعصا ، فقال له يوشع : يا كليم الله أين أمرت ؟ قال : ههنا ، قال : فجاز البحر ما يواري حافره الماء ، فذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، وقال له الذي يكتم إيمانه : يا كليم الله أين أمرت ؟ قال : ههنا ، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم قحمه البحر فأرسب في الماء ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضرب بعصاه موسى البحر فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده .

وقوله : ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) يقول تعالى ذكره : فكان كل طائفة من البحر لما ضربه موسى كالجبل العظيم . وذكر أنه انفلق اثنتي عشرة فلقة على عدد الأسباط ، لكل سبط منهم فرق .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) يقول : كالجبل العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط ، وكان الطريق كما إذا انفلقت الجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا ; فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها قناطر كهيئة الطيقان ، فنظر آخرهم إلى أولهم حتى خرجوا جميعا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، وحجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله وغيره قالوا : انفلق البحر ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط ، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا ، وكانت الطرق بجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا ; فلما رأى ذلك موسى ، دعا الله فجعلها لهم بقناطر كهيئة الطيقان ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وعلى أرض يابسة كأن الماء لم يصبها قط حتى عبر .

قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما انفلق البحر لهم صار فيه [ ص: 358 ] كوى ينظر بعضهم إلى بعض .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق : ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) أي كالجبل على نشز من الأرض .

حدثني علي ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) يقول : كالجبل .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( كالطود العظيم ) قال : كالجبل العظيم .

ومنه قول الأسود بن يعفر :


حلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد



يعني بالأطواد : جمع طود ، وهو الجبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية