الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( 136 ) إن هذا إلا خلق الأولين ( 137 ) وما نحن بمعذبين ( 138 ) )

يقول تعالى ذكره : قالت عاد لنبيهم هود صلى الله عليه وسلم : معتدل عندنا وعظك إيانا ، وتركك الوعظ ، فلن نؤمن لك ولن نصدقك على ما جئتنا به .

وقوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ; فقرأته عامة قراء المدينة سوى أبي جعفر ، وعامة قراء الكوفة المتأخرين منهم : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) من قبلنا : وقرأ ذلك أبو جعفر ، وأبو عمرو بن العلاء : " إن هذا إلا خلق الأولين " بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى : ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين وأحاديثهم .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نحو اختلاف القراء في قراءته ، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأولين وعادتهم وأخلاقهم . [ ص: 378 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : دين الأولين .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : هكذا خلقة الأولين ، وهكذا كانوا يحيون ويموتون .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هذا إلا كذب الأولين وأساطيرهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) قال : أساطير الأولين .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إلا خلق الأولين ) قال : كذبهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) قال : إن هذا إلا أمر الأولين وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) يقول : إن هذا إلا اختلاق الأولين .

قال ثنا يزيد بن هارون ، قال . أخبرنا داود ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله ، أنه كان يقرأ ( إن هذا إلا خلق الأولين ) ويقول شيء اختلقوه .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : قال علقمة : ( إن هذا إلا خلق الأولين ) قال : اختلاق الأولين .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأ ( إن هذا إلا خلق الأولين ) [ ص: 379 ] بضم الخاء واللام ، بمعنى : إن هذا إلا عادة الأولين ودينهم ، كما قال ابن عباس ، لأنهم إنما عوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه ، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة ، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم ، فأجابوا نبيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك ، احتذاء منهم سنة من قبلهم من الأمم ، واقتفاء منهم آثارهم ، فقالوا : ما هذا الذي نفعله إلا خلق الأولين ، يعنون بالخلق : عادة الأولين . ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل ، قولهم : ( وما نحن بمعذبين ) لأنهم لو كانوا لا يقرون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم ، ما قالوا : ( وما نحن بمعذبين ) بل كانوا يقولون : إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأولين ، وما لنا من معذب يعذبنا ، ولكنهم كانوا مقرين بالصانع ، ويعبدون الآلهة ، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها ، ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفى ، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوته : ( سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) ثم قالوا له : ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم ، وما الله معذبنا عليه . كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا ، أنهم كانوا يقولون لرسلهم : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية