الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ( 29 ) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( 30 ) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ( 31 ) )

يقول تعالى ذكره : فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها ، فألقاه إليها فلما قرأته قالت لقومها : ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كتب - يعني سليمان بن داود - مع الهدهد : بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود ، إلى بلقيس بنت ذي سرح وقومها ، أما بعد ، فلا تعلو علي ، وأتوني مسلمين ، قال : فأخذ الهدهد الكتاب برجله ، فانطلق به حتى أتاها ، وكانت لها كوة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها ، فسجدت لها ، فأتى الهدهد الكوة فسدها بجناحيه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم ، ثم ألقى الكتاب من الكوة ، فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه ، فأخذته .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن [ ص: 452 ] قتادة ، قال : بلغني أنها امرأة يقال لها بلقيس ، أحسبه قال : ابنة شراحيل ، أحد أبويها من الجن ، مؤخر أحد قدميها كحافر الدابة ، وكانت في بيت مملكة ، وكان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر ، كل رجل منهم على عشرة آلاف ، وكانت بأرض يقال لها مأرب ، من صنعاء على ثلاثة أيام ; فلما جاء الهدهد بخبرها إلى سليمان بن داود ، كتب الكتاب وبعث به مع الهدهد ، فجاء الهدهد وقد غلقت الأبواب ، وكانت تغلق أبوابها وتضع مفاتيحها تحت رأسها ، فجاء الهدهد فدخل من كوة ، فألقى الصحيفة عليها ، فقرأتها ، فإذا فيها : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) وكذلك كانت تكتب الأنبياء لا تطنب ، إنما تكتب جملا .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه إنه وإنه .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) فمضى الهدهد بالكتاب ، حتى إذا حاذى الملكة وهي على عرشها ألقى إليها الكتاب .

وقوله : ( قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) والملأ أشراف قومها ، يقول تعالى ذكره : قالت ملكة سبأ لأشراف قومها : ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) .

واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم ، فقال بعضهم : وصفته بذلك لأنه كان مختوما .

وقال آخرون : وصفته بذلك لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه . وممن قال ذلك ابن زيد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) قال : هو كتاب سليمان حيث كتب إليها .

وقوله ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) كسرت إن الأولى والثانية على الرد على " إني " من قوله : ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) . ومعنى الكلام : قالت : يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب ، وإنه من سليمان .

وقوله ( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) يقول : ألقي إلي كتاب كريم [ ص: 453 ] ألا تعلوا علي .

ففي " أن " وجهان من العربية : إن جعلت بدلا من الكتاب كانت رفعا بما رفع به الكتاب بدلا منه ; وإن جعل معنى الكلام : إني ألقي إلي كتاب كريم ألا تعلوا علي كانت نصبا بتعلق الكتاب بها .

وعنى بقوله : ( ألا تعلوا علي ) ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه .

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ألا تعلوا علي ) ألا تمتنعوا من الذي دعوتكم إليه إن امتنعتم جاهدتكم ، فقلت لابن زيد : ( ألا تعلوا علي ) ألا تتكبروا علي ؟ قال : نعم ; قال : وقال ابن زيد : ( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) ذلك في كتاب سليمان إليها . وقوله : ( وأتوني مسلمين ) يقول : وأقبلوا إلي مذعنين لله بالوحدانية والطاعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية