الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ( 35 ) فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ( 36 ) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ( 37 ) )

ذكر أنها قالت : إني مرسلة إلى سليمان ، لتختبره بذلك وتعرفه به ، أملك هو ، أم نبي ؟ وقالت : إن يكن نبيا لم يقبل الهدية ، ولم يرضه منا ، إلا أن نتبعه على دينه ، وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف .

ذكر الرواية عمن قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قالت : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) قال : وبعثت إليه بوصائف ووصفاء ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت : إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم رد الهدية فإنه نبي ، وينبغي لنا أن نترك ملكنا ونتبع دينه ، ونلحق به .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) قال : بجوار لباسهم لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم [ ص: 456 ] لباس الجواري .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قولها : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) قال : مائتي غلام ومائتي جارية . قال ابن جريج : قال مجاهد : قوله : ( بهدية ) قال : جوار ألبستهن لباس الغلمان ، وغلمان ألبستهم لباس الجواري .

قال ابن جريج : قال : قالت : فإن خلص الجواري من الغلمان ، ورد الهدية فإنه نبي ، وينبغي لنا أن نتبعه .

قال ابن جريج ، قال مجاهد : فخلص سليمان بعضهم من بعض ، ولم يقبل هديتها .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان ، عن معمر ، عن ثابت البناني ، قال : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج ، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب ، ثم أمر به فألقي في الطرق ، فلما جاءوا فرأوه ملقى ما يلتفت إليه ، صغر في أعينهم ما جاءوا به .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) . . . الآية ، وقالت : إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه ، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة في بيت ملك ، لم تملك إلا لبقايا من مضى من أهلها ، إنه قد سيست وساست حتى أحكمها ذلك ، وكان دينها ودين قومها فيما ذكر الزنديقية ; فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كتب الملوك التي كانت قبلها ، فبعثت إلى المقاولة من أهل اليمن ، فقالت لهم : ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) إلى قوله ( بم يرجع المرسلون ) ثم قالت : إنه قد جاءني كتاب لم يأتني مثله من ملك من الملوك قبله ، فإن يكن الرجل نبيا مرسلا فلا طاقة لنا به ولا قوة ، وإن يكن الرجل ملكا يكاثر ، فليس بأعز منا ، ولا أعد . فهيأت هدايا مما يهدى للملوك ، مما يفتنون به ، فقالت : إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب في المال ، وإن يكن نبيا [ ص: 457 ] فليس له في الدنيا حاجة ، وليس إياها يريد ، إنما يريد أن ندخل معه في دينه ونتبعه على أمره ، أو كما قالت .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) بعثت بوصائف ووصفاء ، لباسهم لباس واحد ، فقالت : إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم رد الهدية فهو نبي ، وينبغي لنا أن نتبعه ، وندخل في دينه ; فزيل سليمان بين الغلمان والجواري ، ورد الهدية ، فقال ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم ) .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في الهدايا التي بعثت بها وصائف ووصفاء يختلفون في ثيابهم ، ليميز الغلمان من الجواري ، قال : فدعا بماء ، فجعل الجواري يتوضأن من المرفق إلى أسفل ، وجعل الغلمان يتوضئون من المرفق إلى فوق . قال : وكان أبي يحدثنا هذا الحديث .

حدثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : ثنا إسماعيل ، عن أبي صالح : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) قال : أرسلت بلبنة من ذهب ، وقالت : إن كان يريد الدنيا علمته ، وإن كان يريد الآخرة علمته .

وقوله : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) تقول : فأنظر بأي شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي ، أبقبول وانصراف عنا ، أم برد الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه ؟ وأسقطت الألف من " ما " في قوله ( بم ) وأصله : بما ، لأن العرب إذا كانت " ما " بمعنى : أي ، ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام وغيره ، كما قال جل ثناؤه ( عم يتساءلون ) و ( قالوا فيم كنتم ) ، وربما أثبتوا فيها الألف ، كما قال الشاعر :


علاما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في تراب

[ ص: 458 ]

وقالت : ( وإني مرسلة إليهم ) وإنما أرسلت إلى سليمان وحده على النحو الذي بينا في قوله : ( على خوف من فرعون وملئهم ) ، وقوله : ( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال ) .

إن قال قائل : وكيف قيل : ( فلما جاء سليمان ) فجعل الخبر في مجيء سليمان عن واحد ، وقد قال قبل ذلك : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) فإن كان الرسول كان واحدا ، فكيف قيل ( بم يرجع المرسلون ) وإن كانوا جماعة فكيف قيل : ( فلما جاء سليمان ) قيل : هذا نظير ما قد بينا قبل من إظهار العرب الخبر في أمر كان من واحد على وجه الخبر ، عن جماعة إذا لم يقصد قصد الخبر عن شخص واحد بعينه ، يشار إليه بعينه ، فسمي في الخبر . وقد قيل : إن الرسول الذي وجهته ملكة سبأ إلى سليمان كان امرأ واحدا ، فلذلك قال : ( فلما جاء سليمان ) يراد به : فلما جاء الرسول سليمان ; واستدل قائلو ذلك على صحة ما قالوا من ذلك بقول سليمان للرسول : ( ارجع إليهم ) وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ، فلما جاءوا سليمان على الجمع ، وذلك للفظ قوله : ( بم يرجع المرسلون ) فصلح الجمع للفظ والتوحيد للمعنى .

وقوله : ( أتمدونن بمال ) يقول : قال سليمان لما جاء الرسول من قبل المرأة بهداياها : أتمدونن بمال .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء أهل المدينة " أتمدونني " بنونين ، وإثبات الياء . وقرأه بعض الكوفيين مثل ذلك ، غير أنه حذف الياء من آخر ذلك وكسر النون الأخيرة . وقرأه بعض قراء البصرة بنونين ، وإثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف . وقرأه بعض قراء الكوفة بتشديد النون وإثبات الياء . وكل هذه القراءات متقاربات وجميعها صواب ، لأنها معروفة في لغات العرب ، مشهورة في منطقها .

وقوله : ( فما آتاني الله خير مما آتاكم ) يقول : فما آتاني الله من المال والدنيا أكثر مما أعطاكم منها وأفضل ( بل أنتم بهديتكم تفرحون ) يقول : ما أفرح بهديتكم التي [ ص: 459 ] أهديتم إلي ، بل أنتم تفرحون بالهدية التي تهدى إليكم ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ، ومكاثرة بها ، وليست الدنيا وأموالها من حاجتي ، لأن لله تعالى ذكره قد مكنني منها وملكني فيها ما لم يملك أحدا .

( ارجع إليهم ) وهذا قول سليمان لرسول المرأة ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعهم عما أرادوا منهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما أتت الهدايا سليمان فيها الوصائف والوصفاء ، والخيل العراب ، وأصناف من أصناف الدنيا ، قال للرسل الذين جاءوا به : ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) لأنه لا حاجة لي بهديتكم ، وليس رأيي فيه كرأيكم ، فارجعوا إليها بما جئتم به من عندها ، ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) قال : لا طاقة لهم بها . وقوله : ( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) يقول : ولنخرجن من أرسلكم من أرضهم أذلة وهم صاغرون إن لم يأتوني مسلمين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) ، أو لتأتيني مسلمة هي وقومها .

التالي السابق


الخدمات العلمية