الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ( 26 ) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 27 ) )

يقول - تعالى ذكره - : من في السموات والأرض من ملك وجن وإنس عبيد وملك ( كل له قانتون ) يقول : كل له مطيعون ، فيقول قائل : وكيف قيل ( كل له قانتون ) وقد علم أن أكثر الإنس والجن له عاصون ؟ فنقول : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فنذكر اختلافهم ، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول ، فقال بعضهم : ذلك كلام مخرجه مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ومعناه : ( كل له قانتون ) في الحياة والبقاء والموت ، والفناء والبعث والنشور ، لا يمتنع عليه شيء من ذلك ، وإن عصاه بعضهم في غير ذلك .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) إلى ( كل له قانتون ) يقول : مطيعون ، يعني الحياة والنشور والموت ، وهم عاصون له فيما سوى [ ص: 91 ] ذلك من العبادة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ( كل له قانتون ) بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( كل له قانتون ) : أي مطيع مقر بأن الله ربه وخالقه .

وقال آخرون : هو على الخصوص ، والمعنى : ( وله من في السموات والأرض ) من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس . قال : أخبرنا ابن وهب . قال : قال ابن زيد في قوله : ( كل له قانتون ) قال : كل له مطيعون ، المطيع : القانت . قال : وليس شيء إلا وهو مطيع ، إلا ابن آدم ، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله . وفي قوله : ( وقوموا لله قانتين ) .

قال : هذا في الصلاة . لا تتكلموا في الصلاة ، كما يتكلم أهل الكتاب في الصلاة . قال : وأهل الكتاب يمشي بعضهم إلى بعض في الصلاة . قال : ويتقابلون في الصلاة ، فإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا : لكي تذهب الشحناء من قلوبنا ، تسلم قلوب بعضنا لبعض ، فقال الله : وقوموا لله قانتين لا تزولوا كما يزولون . قانتين : لا تتكلموا كما يتكلمون . قال : فأما ما سوى هذا كله في القرآن من القنوت فهو الطاعة ، إلا هذه الواحدة .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أن كل من في السماوات والأرض من خلق لله مطيع في تصرفه فيما أراد - تعالى ذكره - ، من حياة وموت ، وما أشبه ذلك ، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله ، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه .

وإنما قلت : ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك ؛ لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم ، وقد أخبر - تعالى ذكره - عن جميعهم أنهم له قانتون ، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فيما هو له عاص . وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي فيه عاص هو ما وصفت ، والذي هو له قانت ما بينت .

وقوله : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ) يقول - تعالى ذكره - : والذي له هذه الصفات تبارك وتعالى ، هو الذي يبدأ الخلق من غير أصل فينشئه ويوجده ، بعد أن لم [ ص: 92 ] يكن شيئا ، ثم يفنيه بعد ذلك ، ثم يعيده ، كما بدأه بعد فنائه ، وهو أهون عليه .

اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وهو أهون عليه ) فقال بعضهم : معناه : وهو هين عليه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا يحيى بن سعيد العطار ، عن سفيان ، عمن ذكره ، عن منذر الثوري ، عن الربيع بن خثيم ( وهو أهون عليه ) قال : ما شيء عليه بعزيز .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) يقول : كل شيء عليه هين .

وقال آخرون : معناه : وإعادة الخلق بعد فنائهم أهون عليه من ابتداء خلقهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وهو أهون عليه ) قال : يقول : أيسر عليه .

حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وهو أهون عليه ) قال : الإعادة أهون عليه من البداءة ، والبداءة عليه هين .

حدثني ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة قرأ هذا الحرف ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) قال : تعجب الكفار من إحياء الله الموتى ، قال : فنزلت هذه الآية : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) إعادة الخلق أهون عليه من إبداء الخلق .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا غندر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، بنحوه . إلا أنه قال : إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وهو أهون عليه ) : يقول : إعادته أهون عليه من بدئه ، وكل على الله هين . وفي بعض القراءة : ( وكل على الله هين ) .

وقد يحتمل هذا الكلام وجهين غير القولين اللذين ذكرت ، وهو أن يكون معناه : [ ص: 93 ] وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهو أهون على الخلق ؛ أي إعادة الشيء أهون على الخلق من ابتدائه . والذي ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدثني به ابن سعد قول أيضا له وجه .

وقد وجه غير واحد من أهل العربية قول ذي الرمة :


أخي قفرات دبيت في عظامه شفافات أعجاز الكرى فهو أخضع



إلى أنه بمعنى خاضع . وقول الآخر :


لعمرك إن الزبرقان لباذل     لمعروفه عند السنين وأفضل
كريم له عن كل ذم تأخر     وفي كل أسباب المكارم أول



إلى أنه بمعنى : وفاضل . وقول معن :


لعمرك ما أدري وإني لأوجل     على أينا تعدو المنية أول



إلى أنه بمعنى : وإني لوجل . وقول الآخر :


تمنى مريء القيس موتي وإن أمت     فتلك سبيل لست فيها بأوحد

[ ص: 94 ]

إلى أنه بمعنى : لست فيها بواحد . وقول الفرزدق :


إن الذي سمك السماء بنى لنا     بيتا دعائمه أعز وأطول



إلى أنه بمعنى : عزيزة طويلة .

قالوا : ومنه قولهم في الأذان : الله أكبر ؛ بمعنى : الله كبير ؛ وقالوا : إن قال قائل : إن الله لا يوصف بهذا ، وإنما يوصف به الخلق ، فزعم أنه وهو أهون على الخلق ، فإن الحجة عليه قول الله : ( وكان ذلك على الله يسيرا ) ، وقوله : ( ولا يئوده حفظهما ) أي : لا يثقله حفظهما .

وقوله : ( وله المثل الأعلى ) يقول : ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض ، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، ليس كمثله شيء ، فذلك المثل الأعلى ، تعالى ربنا وتقدس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وله المثل الأعلى في السموات ) يقول : ليس كمثله شيء .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وله المثل الأعلى في السموات والأرض ) مثله أنه لا إله إلا هو ، ولا رب غيره . [ ص: 95 ]

وقوله : ( وهو العزيز الحكيم ) يقول - تعالى ذكره - : وهو العزيز في انتقامه من أعدائه ، الحكيم في تدبيره خلقه ، وتصريفهم فيما أراد من إحياء وإماتة ، وبعث ونشر ، وما شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية