الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ( 28 ) )

يقول - تعالى ذكره - : مثل لكم أيها القوم ربكم مثلا من أنفسكم ، ( هل لكم من ما ملكت أيمانكم ) يقول : من مماليككم من شركاء ، فيما رزقناكم من مال ، فأنتم فيه سواء وهم؟ يقول : فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي ، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي ، وأنا مالك جميعكم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) قال : مثل ضربه الله لمن عدل به شيئا من خلقه ، يقول : أكان أحدكم مشاركا مملوكه في فراشه وزوجته ؟! فكذلكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) قال : هل تجد أحدا يجعل عبده هكذا في ماله ، فكيف تعمد أنت وأنت تشهد أنهم عبيدي وخلقي ، وتجعل لهم نصيبا في عبادتي ، كيف يكون هذا ؟ قال : وهذا مثل ضربه الله لهم ، وقرأ : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) فقال بعضهم : معنى ذلك : تخافون هؤلاء الشركاء ، مما ملكت أيمانكم ، أن يرثوكم أموالكم من بعد وفاتكم ، كما يرث بعضكم بعضا . [ ص: 96 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : في الآلهة ، وفيه يقول : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يقاسموكم أموالكم ، كما يقاسم بعضكم بعضا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر قال : سمعت عمران قال : قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذلك ، كذلك الله لا شريك له .

وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك ، القول الثاني ؛ لأنه أشبههما بما دل عليه ظاهر الكلام ، وذلك أن الله جل ثناؤه وبخ هؤلاء المشركين الذين يجعلون له من خلقه آلهة يعبدونها ، وأشركوهم في عبادتهم إياه ، وهم مع ذلك يقرون بأنها خلقه وهم عبيده ، وعيرهم بفعلهم ذلك ، فقال لهم : هل لكم من عبيدكم شركاء فيما خولناكم من نعمنا ، فهم سواء ، وأنتم في ذلك تخافون أن يقاسموكم ذلك المال الذي هو بينكم وبينهم ، كخيفة بعضكم بعضا أن يقاسمه ما بينه وبينه من المال شركة ، فالخيفة التي ذكرها - تعالى ذكره - بأن تكون خيفة مما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه المال الذي بينهما إياه ، أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه ؛ لأن ذكر الشركة لا يدل على خيفة الوراثة ، وقد يدل على خيفة الفراق والمقاسمة .

وقوله : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) يقول - تعالى ذكره - : كما بينا لكم أيها القوم حججنا في هذه الآيات من هذه السورة على قدرتنا على ما نشاء من إنشاء ما نشاء ، وإفناء ما نحب ، وإعادة ما نريد إعادته بعد فنائه ، ودللنا على أنه لا تصلح العبادة إلا للواحد القهار ، الذي بيده ملكوت كل شيء كذلك نبين حججنا في كل حق لقوم يعقلون ، فيتدبرونها إذا سمعوها ، ويعتبرون فيتعظون بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية