الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ( 17 ) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ( 18 ) والطير محشورة كل له أواب ( 19 ) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ( 20 ) )

يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : اصبر يا محمد على ما يقول مشركو قومك لك مما تكره قيلهم لك ، فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر رسلنا قبلك ، ثم جاعلو العلو والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقك ، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك ، فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا ، فاذكره ذا الأيد ، ويعني بقوله ( ذا الأيد ) ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( داود ذا الأيد ) قال : ذا القوة .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثني أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، [ ص: 167 ] عن مجاهد قوله ( ذا الأيد ) قال ذا القوة في طاعة الله .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد ) قال : أعطي قوة في العبادة ، وفقها في الإسلام .

وقد ذكر لنا أن داود - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله ( داود ذا الأيد ) ذا القوة في طاعة الله .

[ ص: 168 ] حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( داود ذا الأيد ) قال : ذا القوة في عبادة الله ، الأيد : القوة ، وقرأ : ( والسماء بنيناها بأيد ) قال : بقوة .

وقوله ( إنه أواب ) يقول : إن داود رجاع لما يكرهه الله إلى ما يرضيه أواب ، وهو من قولهم : آب الرجل إلى أهله : إذا رجع .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( إنه أواب ) قال : رجاع عن الذنوب .

حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( إنه أواب ) قال : الراجع عن الذنوب .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( إنه أواب ) : أي كان مطيعا لله كثير الصلاة .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله ( إنه أواب ) قال : المسبح .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( إنه أواب ) قال : الأواب التواب الذي يئوب إلى طاعة الله ويرجع إليها ، ذلك الأواب قال : والأواب : المطيع .

وقوله ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) يقول - تعالى ذكره - : إنا سخرنا الجبال يسبحن مع داود بالعشي ، وذلك من وقت العصر إلى الليل ، والإشراق ، وذلك بالغداة وقت الضحى .

ذكر أن داود كان إذا سبح سبحت معه الجبال .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) يسبحن مع داود إذا سبح بالعشي والإشراق .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( بالعشي والإشراق ) قال : حين تشرق الشمس وتضحى .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا محمد بن بشر عن مسعر بن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس أنه بلغه أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ، صلى الضحى ثمان ركعات ، فقال ابن عباس : قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة ، يقول الله : ( يسبحن بالعشي والإشراق ) .

حدثنا ابن عبد الرحيم البرقي قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة قال : ثنا صدقة قال : ثني سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى قال : فأدخلته على أم هانئ ، فقلت : أخبري هذا بما أخبرتني به ، فقالت أم هانئ : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في بيتي ، فأمر بماء فصب في قصعة ، ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه ، فاغتسل ، ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات ، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن [ ص: 169 ] وسجودهن وجلوسهن سواء ، قريب بعضهن من بعض ، فخرج ابن عباس وهو يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن ( يسبحن بالعشي والإشراق ) وكنت أقول : أين صلاة الإشراق ، ثم قال : بعدهن صلاة الإشراق .

حدثنا عمرو بن علي قال : ثنا عبد الأعلى قال : ثنا سعيد بن أبي عروبة عن متوكل عن أيوب بن صفوان مولى عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن الحارث ، " أن أم هانئ ابنة أبي طالب حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح دخل عليها . ثم ذكر نحوه " .

وعن ابن عباس في قوله ( يسبحن بالعشي ) مثل ذلك .

وقوله ( والطير محشورة ) يقول - تعالى ذكره - : وسخرنا الطير يسبحن معه محشورة ، بمعنى : مجموعة له ، ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سبح أجابته الجبال ، واجتمعت إليه الطير ، فسبحت معه واجتماعها إليه كان حشرها . وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى الحشر فيما مضى ، فكرهنا إعادته .

وكان قتادة يقول في ذلك في هذا الموضع ما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( والطير محشورة ) : مسخرة .

وقوله ( كل له أواب ) يقول : كل ذلك له مطيع رجاع إلى طاعته وأمره . ويعني بالكل : كل الطير .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( كل له أواب ) : أي مطيع .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( والطير محشورة كل له أواب ) قال : كل له مطيع .

[ ص: 170 ] وقال آخرون : معنى ذلك : كل ذلك لله مسبح .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله ( والطير محشورة كل له أواب ) يقول : مسبح لله .

وقوله ( وشددنا ملكه ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدد ملكه ، فقال بعضهم : شدد ذلك بالجنود والرجال ، فكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة آلاف .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله ( وشددنا ملكه ) قال : كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة آلاف .

وقال آخرون : كان الذي شدد به ملكه ، أن أعطي هيبة من الناس له لقضية كان قضاها .

ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن حرب قال : ثنا موسى قال : ثنا داود عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم ، فاجتمعا عند داود النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال المستعدي : إن هذا اغتصبني بقرا لي ، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده ، فسأل الآخر البينة ، فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما ، فقاما من عنده ، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله إلى داود في منامه مرة أخرى أن يقتل الرجل ، وأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك ، [ ص: 171 ] فقال الرجل : تقتلني بغير بينة ولا تثبت ؟ ! فقال له داود : نعم ، والله لأنفذن أمر الله فيك ، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال : لا تعجل علي حتى أخبرك ، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ، ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فبذلك قتلت ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود ، وشدد به ملكه ، فهو قول الله : ( وشددنا ملكه ) .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تبارك تعالى أخبر أنه شدد ملك داود ، ولم يحصر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له ولا على هيبة الناس له دون الجنود . وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا ، وجائز أن يكون كان بجميعها ، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله ، إذا لم يحصر ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له .

وقوله ( وآتيناه الحكمة ) اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني بها النبوة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط عن السدي قوله ( وآتيناه الحكمة ) قال : النبوة .

وقال آخرون : عنى بها أنه علم السنن .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وآتيناه الحكمة ) : أي السنة .

وقد بينا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله ( وفصل الخطاب ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال [ ص: 172 ] بعضهم : عني به أنه علم القضاء والفهم به .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال : أعطي الفهم .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد ( وفصل الخطاب ) قال : إصابة القضاء وفهمه .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله ( وفصل الخطاب ) قال : علم القضاء .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال : الخصومات - التي يخاصم الناس إليه . فصل ذلك الخطاب - الكلام الفهم وإصابة القضاء والبينات .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين قال : سمعت أبا عبد الرحمن يقول : فصل الخطاب : القضاء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفصل الخطاب ، بتكليف المدعي البينة ، واليمين على المدعى عليه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا داود بن أبي هند قال : ثني الشعبي أو غيره ، عن شريح أنه قال في قوله ( وفصل الخطاب ) قال : بينة المدعي ، أو يمين المدعى عليه .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن علية عن داود بن أبي هند في قوله ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال : نبئت عن شريح أنه قال : شاهدان أو يمين .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا معتمر قال : سمعت داود قال : بلغني [ ص: 173 ] أن شريحا قال ( وفصل الخطاب ) الشاهدان على المدعي ، واليمين على من أنكر .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن منصور عن طاوس أن شريحا قال لرجل : إن هذا يعيب علي ما أعطي داود ، الشهود والأيمان .

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن الحكم عن شريح أنه قال في هذه الآية ( وفصل الخطاب ) قال : الشهود والأيمان .

حدثنا عمران بن موسى قال : ثنا عبد الوارث قال : ثنا داود عن الشعبي في قوله ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال : يمين أو شاهد .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وفصل الخطاب ) البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب ، هذا فصل الخطاب .

وقال آخرون : بل هو قول : أما بعد .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا جابر بن نوح قال : ثنا إسماعيل ، عن الشعبي في قوله ( وفصل الخطاب ) قال : قول الرجل : أما بعد .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب - أن يقال : إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب . والفصل : هو القطع ، والخطاب هو المخاطبة ، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه - قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم . ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه - إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا ، فإقامة البينة على دعواه ، وإن كان مدعى عليه ، فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه . ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى - الفصل بينهما بأما بعد . فإذ كان ذلك كله محتملا ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أي ذلك المراد ، ولا ورد به خبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابت ، فالصواب أن يعم الخبر ، كما عمه الله ، فيقال : أوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب .

التالي السابق


الخدمات العلمية