الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ( 9 ) )

اختلفت القراء في قراءة قوله : ( أمن ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين : " أمن " بتخفيف الميم ، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون الألف في " أمن " بمعنى الدعاء ، يراد بها : يا من هو قانت آناء الليل ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا ، فتقول : أزيد أقبل ، ويا زيد أقبل ، ومنه قولأوس بن حجر :


أبني لبينى لستم بيد إلا يد ليست لها عضد

[ ص: 266 ] وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام : قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة . ويكون في النار عما للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة - الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن ، إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا ، ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة ، فحذف الخبر عما له ، اكتفاء بفهم السامع المراد منه من ذكره ، إذ كان قد دل على المحذوف بالمذكور . والثاني : أن تكون الألف التي في قوله : " أمن " ألف استفهام ، فيكون معنى الكلام : أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله ، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه ، إذ كان مفهوما المراد بالكلام ، كما قال الشاعر :


فأقسم لو شيء أتانا رسوله     سواك ولكن لم نجد لك مدفعا



فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده . وقرأ ذلك بعض قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( أمن ) بتشديد الميم ، بمعنى : أم من هو ؟ ويقولون : إنما هي ( أمن ) استفهام اعترض في الكلام بعد [ ص: 267 ] كلام قد مضى ، فجاء بأم ، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر ، وما أعد له في الآخرة ، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان ، فعلم بذلك المراد ، فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره ، إذ كان معقولا أن معناه : هذا أفضل أم هذا ؟

والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القراء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين ، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع ، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره ، فكان بعضهم يقول : هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا يحيى عن عبيد الله أنه قال : أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن القنوت قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام ، وقرأ : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما )

وقال آخرون : هو الطاعة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( أمن هو قانت ) يعني بالقنوت : الطاعة ، وذلك أنه قال : ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ) . . . إلى ( كل له قانتون ) قال : مطيعون .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ) قال : القانت : المطيع .

[ ص: 268 ] وقوله : ( آناء الليل ) يعني : ساعات الليل .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أمن هو قانت آناء الليل ) أوله ، وأوسطه ، وآخره .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( آناء الليل ) قال : ساعات الليل .

وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده ، وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : ( ساجدا وقائما ) يقول : يقنت ساجدا أحيانا ، وأحيانا قائما ، يعني : يطيع ، والقنوت عندنا الطاعة ، ولذلك نصب قوله : ( ساجدا وقائما ) لأن معناه : أمن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا ، وقائما طورا ، فهما حال من قانت .

وقوله : ( يحذر الآخرة ) يقول : يحذر عذاب الآخرة . كما حدثنا علي بن الحسن الأزدي . قال : ثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : ( يحذر الآخرة ) قال : يحذر عقاب الآخرة ، ويرجو رحمة ربه ، يقول : ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة .

وقوله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) يقول - تعالى ذكره - : قل يا محمد لقومك : هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب ، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات ، والذين لا يعلمون ذلك ، فهم يخبطون في عشواء ، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا ، ولا يخافون بسيئها شرا ؟ يقول : ما هذان بمتساويين .

وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي في ذلك ما حدثني محمد بن خلف قال : ثني نصر بن مزاحم قال : ثنا سفيان الجريري عن سعيد بن أبي مجاهد عن جابر عن أبي جعفر رضوان الله عليه ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) قال : نحن الذين يعلمون ، وعدونا الذين لا يعلمون .

[ ص: 269 ] وقوله : ( إنما يتذكر أولو الألباب ) يقول - تعالى ذكره - : إنما يعتبر حجج الله ، فيتعظ ، ويتفكر فيها ، ويتدبرها - أهل العقول والحجا ، لا أهل الجهل والنقص في العقول .

التالي السابق


الخدمات العلمية