الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام )

قال أبو جعفر : وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين ، بقوله جل ثناؤه : ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهر قوله وعلانيته ، ويستشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام ، جدل بالباطل .

ثم اختلف أهل التأويل في من نزلت فيه هذه الآية .

فقال بعضهم . نزلت في الأخنس بن شريق ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أنه يريد الإسلام ، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك ، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين .

ذكر من قال ذلك :

3961 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " ، قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي - وهو حليف لبني زهرة - وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فأظهر له الإسلام ، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام ، والله يعلم أني صادق! وذلك قوله : " ويشهد الله على ما في قلبه " ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، [ ص: 230 ] وعقر الحمر ، فأنزل الله عز وجل : " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل " . وأما" ألد الخصام " فأعوج الخصام ، وفيه نزلت : ( ويل لكل همزة لمزة ) [ الهمزة : 1 ] ونزلت فيه : ( ولا تطع كل حلاف مهين ) إلى ( عتل بعد ذلك زنيم ) [ القلم : 10 - 13 ]

وقال آخرون : بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجيع .

ذكر من قال ذلك :

3962 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن أبى إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما أصيبت هذه السرية أصحاب خبيب بالرجيع بين مكة والمدينة ، فقال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! لا هم قعدوا في بيوتهم ، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قول المنافقين ، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " أي : ما يظهر بلسانه من الإسلام " ويشهد الله على ما في قلبه " أي من النفاق - " وهو ألد الخصام " أي : ذو جدال إذا كلمك وراجعك " وإذا تولى " - أي : خرج من عندك" سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " - أي : [ ص: 231 ] لا يحب عمله ولا يرضاه" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه ، حتى هلكوا على ذلك - يعني هذه السرية .

3963 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس - أو : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - قال : لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرثد بالرجيع ، قال رجال من المنافقين : - ثم ذكر نحو حديث أبي كريب .

وقال آخرون : بل عنى بذلك جميع المنافقين ، وعنى بقوله : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه " [ ص: 232 ] اختلاف سريرته وعلانيته .

ذكر من قال ذلك :

3964 - حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبى أبو معشر نجيح ، قال : سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب ، فقال سعيد : إن في بعض الكتب أن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين ، قال الله تبارك وتعالى : أعلي يجترءون ، وبي يغترون!! وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران !! فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله جل ثناؤه . فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله عز وجل : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " فقال سعيد : قد عرفت في من أنزلت هذه الآية ! فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ، ثم تكون عامة بعد .

3965 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن القرظي ، عن نوف - وكان يقرأ الكتب - قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : " قوم يجتالون الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس لباس مسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، فعلي يجترءون! وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيهم حيران" . قال القرظي : تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " ، ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ) [ الحج : 11 ]

3966 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة قوله : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه " قال : هو المنافق .

3967 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 233 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن الناس من يعجبك قوله " ، قال : علانيته في الدنيا ، ويشهد الله في الخصومة ، إنما يريد الحق .

3968 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " ، قال : هذا عبد كان حسن القول سيئ العمل ، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول ، " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها " .

3969 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه " ، قال : يقول قولا في قلبه غيره ، والله يعلم ذلك .

وفي قوله : " ويشهد الله على ما في قلبه" ، وجهان من القراءة : فقرأته عامة القرأة : " ويشهد الله على ما في قلبه" ، بمعنى أن المنافق الذي يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ، يستشهد الله على ما في قلبه ، أن قوله موافق اعتقاده ، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب . كما : -

3970 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " إلى" والله لا يحب الفساد " ، كان رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله ! قال : حتى يعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله . ثم يقول : أما والله يا رسول الله ، إن الله ليعلم ما في قلبي مثل ما نطق به لساني! فذلك قوله : " ويشهد الله على ما في قلبه " . قال : هؤلاء المنافقون ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ) حتى بلغ : ( إن المنافقين لكاذبون ) [ المنافقون : 1 ] بما يشهدون أنك رسول الله . [ ص: 234 ]

وقال السدي : " ويشهد الله على ما في قلبه " ، يقول : الله يعلم أني صادق ، أني أريد الإسلام .

3971 - حدثني بذلك موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط .

وقال مجاهد : ويشهد الله في الخصومة أنما يريد الحق .

3972 - حدثني بذلك محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عنه .

وقرأ ذلك آخرون : ( ويشهد الله على ما في قلبه ) بمعنى : والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق ، وأنه مضمر في قلبه غير الذي يبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه . وهي قراءة ابن محيصن ، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس . وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب ، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفا .

والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ : " ويشهد الله على ما في قلبه " ، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه ، لإجماع الحجة من القرأة عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية