الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 535 ] القول في تأويل قوله تعالى ( كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل وعز : ومثل الذين ينفقون أموالهم ، فيتصدقون بها ، ويسبلونها في طاعة الله بغير من على من تصدقوا بها عليه ، ولا أذى منهم لهم بها ، ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده ( كمثل جنة ) .

" والجنة " : البستان . وقد دللنا فيما مضى على أن " الجنة " البستان ، بما فيه الكفاية من إعادته .

( بربوة ) والربوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل . وإنما وصفها بذلك - جل ثناؤه - لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ ، وجنان ما غلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رق منها ، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة :


ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل

[ ص: 536 ]

فوصفها بأنها من رياض الحزن ؛ لأن الحزون : غروسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها .

وفي " الربوة " لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القرأة ، وهي " ربوة " بضم الراء ، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق .

و " ربوة " بفتح الراء ، وبها قرأ بعض أهل الشام ، وبعض أهل الكوفة ، ويقال إنها لغة لتميم . " وربوة " بكسر الراء ، وبها قرأ - فيما ذكر - ابن عباس .

قال أبو جعفر : وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح " الراء " وإما بضمها ؛ لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما . وأنا لقراءتها بضمها أشد إيثارا مني بفتحها ؛ لأنها أشهر اللغتين في العرب . فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة .

وإنما سميت " الربوة " لأنها " ربت " فغلظت وعلت ، من قول القائل : " ربا هذا الشيء يربو " إذا انتفخ فعظم .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6074 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) ، قال : الربوة المكان الظاهر المستوي . [ ص: 537 ]

6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة .

6076 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( كمثل جنة بربوة ) يقول بنشز من الأرض .

6077 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( كمثل جنة بربوة ) والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ، والذي فيه الجنان .

6078 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( بربوة ) برابية من الأرض .

6079 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( كمثل جنة بربوة ) ، والربوة النشز من الأرض .

6080 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : ( كمثل جنة بربوة ) قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .

وكان آخرون يقولون : هي المستوية .

ذكر من قال ذلك :

6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه .

قال أبو جعفر : وأما قوله : ( أصابها وابل ) فإنه يعني جل ثناؤه : أصاب [ ص: 538 ] الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر ، وهو الشديد العظيم القطر منه .

وقوله : ( فآتت أكلها ضعفين ) ، فإنه يعني الجنة : أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر .

" والأكل " : هو الشيء المأكول ، وهو مثل " الرعب والهزء " وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على " فعل " . وأما " الأكل " بفتح " الألف " وتسكين " الكاف " فهو فعل الآكل ، يقال منه : " أكلت أكلا وأكلت أكلة واحدة " كما قال الشاعر :


وما أكلة إن نلتها بغنيمة     ولا جوعة إن جعتها بغرام



ففتح " الألف " لأنها بمعنى الفعل . ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : " ولا جوعة " . وإن ضمت الألف من " الأكلة " كان معناه : الطعام الذي أكلته ، فيكون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة . [ ص: 539 ]

وأما قوله : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) فإن " الطل " هو الندى واللين من المطر كما : -

6082 - حدثنا عباس بن محمد قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج : ( فطل ) ندى عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس .

6083 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " الطل " فالندى .

6084 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) ، أي طش .

6085 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فطل ) قال : الطل : الرذاذ من المطر ، يعني : اللين منه .

6086 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فطل ) أي طش .

قال أبو جعفر : وإنما يعني - تعالى ذكره - بهذا المثل : كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل ، فإن أخطأ هذا الوابل فالطل كذلك يضعف الله صدقة المتصدق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير من ولا أذى ، قلت نفقته أو كثرت ، لا تخيب ولا تخلف نفقته ، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها ، قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6087 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) يقول : كما أضعفت [ ص: 540 ] ثمرة تلك الجنة ، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين .

6088 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال ، إما وابل ، وإما طل .

6089 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله .

6090 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ) . الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟

قيل : يراد فيه " كان " ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يكن الوابل أصابها ، أصابها طل . وذلك في الكلام نحو قول القائل : " حبست فرسين ، فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته " بمعنى : " إلا أكن " - لا بد من إضمار " كان " لأنه خبر . ومنه قول الشاعر : .


إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة     ولم تجدي من أن تقري بها بدا



التالي السابق


الخدمات العلمية