الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 79 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها )

قال أبو جعفر : ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قبلهم من حق عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد ، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك ؛ لأن كل واحد منهم - أعني من الباعة والمشترين - يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة ، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابا بما وجب لهم قبلهم ، وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم . فلذلك قال - تعالى ذكره - : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6400 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " يقول : معكم بالبلد ترونها ، فتأخذ وتعطي ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها . [ ص: 80 ]

6401 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك . " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " إلى قوله : " فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه ، صغيرا كان أو كبيرا ، ورخص لهم أن لا يكتبوه .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة ) بالرفع .

وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع " كان " وتضمر معها في " كان " مجهولا فتقول : " إن كان طعاما طيبا فأتنا به " وترفعها فتقول : " إن كان طعام طيب فأتنا به " فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة ثم لا أستجيز القراءة بغيره الرفع في " التجارة الحاضرة " ؛ لإجماع القرأة على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم ، ولا يعترض بالشاذ على الحجة . ومما جاء نصبا قول الشاعر :


أعيني هلا تبكيان عفاقا إذا كان طعنا بينهم وعناقا

[ ص: 81 ]

وقول الآخر :


ولله قومي أي قوم لحرة     إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

! !

وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات ، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها . و " كان " من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما ، تذكروا إتباع النكرة خبرها ، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة " كان " لمنصوب ومرفوع . ووجدوا النكرة يتبعها خبرها ، وأضمروا في " كان " مجهولا لاحتمالها الضمير .

وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أن يقرأ " يكون " بالياء ، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه . وذلك أن العرب إذا جعلوا مع " كان " نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها ، أنثوا " كان " مرة ، وذكروها أخرى ، فقالوا : " إن كانت جارية صغيرة فاشتروها ، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها " تذكر " كان " - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت - أحيانا ، وتؤنث أحيانا . [ ص: 82 ]

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " مرفوعة فيه " التجارة الحاضرة " لأن " تكون " بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن توجد أو تقع أو تحدث . فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك ، إذ لم يكن يجدك ل " كان " منصوبا ، ووجد " التجارة الحاضرة " مرفوعة ، وأغفل جواز قوله : " تديرونها بينكم " أن يكون خبرا ل " كان " فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم .

والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية ، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه وفي المعنى أصح : وهو أن يكون في قوله : " تديرونها بينكم " وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب ، على أنه حل محل خبر " كان " و " التجارة الحاضرة " اسمها . والآخر : أنه في موضع رفع على إتباع " التجارة الحاضرة " لأن خبر النكرة يتبعها . فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية