الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5727 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب ) هكذا اتفق أصحاب الزهري ، وخالفهم عقيل فقال " عن عطاء بن يزيد عن أبي " وخالفهم كلهم شبيب بن سعيد عن يونس عنه فقال " عن عبيد الله أو عبد الرحمن عن أبي بن كعب " قال إبراهيم الحربي : أما شبيب فلم يضبط سنده ، وقد ضبطه ابن وهب عن يونس فساقه على الصواب أخرجه مسلم ، وأما عقيل فلعله سقط عليه لفظ أيوب فصار عن أبي فنسبه من قبل نفسه فقال ابن كعب فوهم في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فوق ثلاث ) ظاهره إباحة ذلك في الثلاث ، وهو من الرفق ; لأن الآدمي في طبعه الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك ، والغالب أنه يزول أو يقل في الثلاث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) زاد الطبري من طريق أخرى عن الزهري يسبق إلى الجنة ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه ، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر ، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم ، وخرج المسلم من الهجرة ولأحمد والمصنف في " الأدب المفرد " وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر فإنهما ناكثان عن الحق ما داما على صرامهما ، وأولهما فيئا يكون سبقه كفارة فذكر نحو حديث أبي هريرة ، وزاد في آخره فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) قال أكثر العلماء : تزول الهجرة بمجرد السلام ورده ، وقال أحمد : لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا . وقال أيضا : ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام . وكذا قال ابن القاسم وقال عياض : إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه ، يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم . قلت : ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها ، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا تقبل شهادته عليه ، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع ، واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه واستدل بقوله : " أخاه " على أن الحكم يختص بالمؤمنين . وقال النووي : لا حجة في قوله : لا يحل لمسلم لمن يقول : الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ; لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به . وأما التقييد بالأخوة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد . واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع من مكالمته والسلام عليه أثم بذلك ; لأن نفي الحل يستلزم التحريم ، ومرتكب الحرام آثم . قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة ، فإن كان كذلك جاز ، ورب هجر جميل خير من مخالطة [ ص: 512 ] مؤذية . وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة في حق ابن الزبير قال ابن التين : إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة كلله علي أن أعتق أو أن أصلي ، وأما إذا كان في حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر ، وترك الكلام يفضي إلى التهاجر وهو حرام أو مكروه . وأجاب الطبري بأن المحرم إنما هو ترك السلام فقط ، وإن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام ، وأطال في تقرير ذلك وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان ولا يكلم أحدهما الآخر وليسا مع ذلك متهاجرين ، قال : وكانت عائشة لا تأذن لأحد من الرجال عليها إلا بإذن ، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها ، كذا قال ، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها ، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رأت ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله لأحجرن عليها ، فإن فيه تنقيصا لقدرها ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله - تعالى - ، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش ، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق ، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب ، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته ، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر ، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم ، فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة . وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث ، واستدل بأنه - صلى الله عليه وسلم - هجر نساءه شهرا ، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة . ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى ، فالأعلى اجتناب الإعراض جملة فيبذل السلام والكلام والمواددة بكل طريق ، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره ، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى ، وأما الأعلى فمن تركه من الأجانب فلا يلحقه اللوم ، بخلاف الأقارب فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم ، وإلى هذا أشار ابن الزبير في قوله " فإنه لا يحل لها قطيعتي " أي إن كانت هجرتي عقوبة على ذنبي فليكن لذلك أمد ، وإلا فتأبيد ذلك يفضي إلى قطيعة الرحم ، وقد كانت عائشة علمت بذلك لكنها تعارض عندها هذا والنذر الذي التزمته ، فلما وقع من اعتذار ابن الزبير واستشفاعه ما وقع رجح عندها ترك الإعراض عنه ، واحتاجت إلى التكفير عن نذرها بالعتق الذي تقدم ذكره ، ثم كانت بعد ذلك يعرض عندها شك في أن التكفير المذكور لا يكفيها فتظهر الأسف على ذلك إما ندما على ما صدر منها من أصل النذر المذكور وإما خوفا من عاقبة ترك الوفاء به ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية