الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب رفع الصوت بالنداء وقال عمر بن عبد العزيز أذن أذانا سمحا وإلا فاعتزلنا

                                                                                                                                                                                                        584 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 105 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 105 ] قوله : ( باب رفع الصوت بالنداء ) قال الزين بن المنير : لم ينص على حكم رفع الصوت لأنه من صفة الأذان ، وهو لم ينص في أصل الأذان على حكم كما تقدم ، وقد ترجم عليه النسائي " باب الثواب على رفع الصوت بالأذان " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عمر بن عبد العزيز ) وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر عن سعيد بن أبي حسين أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه فقال له عمر بن عبد العزيز . . فذكره ، ولم أقف على اسم هذا المؤذن وأظنه من بني سعد القرظ لأن ذلك وقع حيث كان عمر بن عبد العزيز أميرا على المدينة ، والظاهر أنه خاف عليه من التطريب الخروج عن الخشوع ، لا أنه نهاه عن رفع الصوت . وقد روي نحو هذا من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه الدارقطني وفيه إسحاق بن أبي يحيى الكعبي وهو ضعيف عند الدارقطني وابن عدي ، وقال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه ، ثم غفل فذكره في الثقات .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبيه ) زاد ابن عيينة " وكان يتيما في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد " أخرجه ابن خزيمة من طريقه ، لكن قلبه ابن عيينة فقال : عن عبد الرحمن بن عبد الله والصحيح قول مالك ووافقه عبد العزيز الماجشون . وزعم أبو مسعود في الأطراف أن البخاري أخرج روايته ، لكن لم نجد ذلك ولا ذكرها خلف قاله ابن عساكر . واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبدول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار ، مات أبو صعصعة في الجاهلية ، وابنه عبد الرحمن صحابي ، روى ابن شاهين في الصحابة من طريق قيس بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن جده حديثا سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي سياقه أن جده كان بدريا ، وفيه نظر لأن أصحاب المغازي لم يذكروه فيهم وإنما ذكروا أخاه قيس بن أبي صعصعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن أبا سعيد الخدري قال له ) أي لعبد الله بن عبد الرحمن .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تحب الغنم والبادية ) أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى ، وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في غنمك أو باديتك ) ) يحتمل أن تكون " أو " شكا من الراوي ، ويحتمل أن تكون للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية ، ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأذنت للصلاة ) أي لأجل الصلاة ، وللمصنف في بدء الخلق " بالصلاة " أي أعلمت بوقتها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فارفع ) فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين ، واستدل به الرافعي للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد ، وهو الراجح عند الشافعية بناء على أن الأذان حق الوقت ، وقيل لا يستحب بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة ، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة أو لا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بالنداء ) أي بالأذان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا يسمع مدى صوت المؤذن ) أي غاية صوته ، قال البيضاوي : غاية الصوت تكون أخفى [ ص: 106 ] من ابتدائه ، فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( جن ولا إنس ولا شيء ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات ، فهو من العام بعد الخاص ، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس ، ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ المؤذن يغفر له مدى صوته ، ويشهد له كل رطب ويابس ونحوه للنسائي وغيره من حديث البراء وصححه ابن السكن ، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب " ولا شيء " وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره ، قال القرطبي : قوله " ولا شيء " المراد به الملائكة . وتعقب بأنهم دخلوا في قوله جن لأنهم يستخفون عن الأبصار ، وقال غيره : المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات . ومنهم من حمله على ظاهره ، وذلك غير ممتنع عقلا ولا شرعا . قال ابن بزيزة ، تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي ، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها ، أو هو على ظاهره ؟ وغير ممتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام . وقد تقدم البحث في ذلك في قول النار " أكل بعضي بعضا " وسيأتي في الحديث الذي فيه " أن البقرة قالت إنما خلقت للحرث " وفي مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا إني لأعرف حجرا كان يسلم علي اهـ . ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك : إن قوله هنا " ولا شيء " نظير قوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده وتعقبه بأن الآية مختلف فيها ، وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف ، إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها ، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة : السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة ، قاله الزين بن المنير . وقال التوربشتي : المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة ، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك يكرم بالشهادة آخرين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا شهد له ) للكشميهني إلا يشهد له ، وتوجيههما واضح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو سعيد سمعته ) قال الكرماني : أي هذا الكلام الأخير وهو قوله إنه لا يسمع إلخ . قلت : وقد أورد الرافعي هذا الحديث في الشرح بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي سعيد : إنك رجل تحب الغنم وساقه إلى آخره ، وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمامه والقاضي حسين وابن داود شارح المختصر وغيرهم ، وتعقبه النووي ، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد " سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عائد على كل ما ذكر اهـ . ولا يخفى بعده . وقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة ولفظه " قال أبو سعيد : إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يسمع " فذكره ، ورواه يحيى القطان أيضا عن مالك بلفظ " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أذنت فارفع صوتك ، فإنه لا يسمع فذكره . فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف ، والله أعلم . وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به ، وفيه أن [ ص: 107 ] حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح ، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن من غلبة الجفاء . وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه ولو كان في قفر ولو لم يرتج حضور من يصلي معه ، لأنه إن فاته دعاء المصلين فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية