الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        656 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في بيته ) ) أي في المشربة التي في حجرة عائشة كما بينه أبو سفيان عن جابر ، وهو دال على أن تلك الصلاة لم تكن في المسجد ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - عجز عن الصلاة بالناس في المسجد فكان يصلي في بيته بمن حضر ، لكنه لم ينقل أنه استخلف ، ومن ثم قال عياض : إن الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة [ ص: 209 ] وائتم به من حضر عنده ومن كان في المسجد ، وهذا الذي قاله محتمل ، ويحتمل أيضا أن يكون استخلف وإن لم ينقل ، ويلزم على الأول صلاة الإمام أعلى من المأمومين ومذهب عياض خلافه ، لكن له أن يقول محل المنع ما إذا لم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحد وهنا كان معه بعض أصحابه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهو شاك ) ) بتخفيف الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض ، وكان سبب ذلك ما في حديث أنس المذكور بعده أن سقط عن فرس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فصلى جالسا ) قال عياض : يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام . قال : وليس كذلك ، وإنما كانت قدمه - صلى الله عليه وسلم - انفكت كما في رواية بشير بن المفضل عن حميد عن أنس الإسماعيلي ، وكذا لأبي داود وابن خزيمة من رواية أبي سفيان عن جابر كما قدمناه . وأما قوله في رواية الزهري عن أنس بن مالك " جحش شقه الأيمن " وفي رواية يزيد عن حميد عن أنس " جحش ساقه " أو " كتفه " كما تقدم في " باب الصلاة على السطوح " فلا ينافي ذلك كون قدمه انفكت لاحتمال وقوع الأمرين ، وقد تقدم تفسير الجحش بأنه الخدش والخدش قشر الجلد ، ووقع عند المصنف في " باب يهوي بالتكبير " من رواية سفيان عن الزهري عن أنس قال سفيان : حفظت من الزهري شقه الأيمن ، فلما خرجنا قال ابن جريج : ساقه الأيمن .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ورواية ابن جريج أخرجها عبد الرزاق عنه ، وليست مصحفة كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميد المذكورة لها ، وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن لأن الخدش لم يستوعبه . وحاصل ما في القصة أن عائشة أبهمت الشكوى ، وبين جابر وأنس السبب وهو السقوط عن الفرس ، وعين جابر العلة في الصلاة قاعدا وهي انفكاك القدم ، وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وصلى وراءه قوم قياما ) ولمسلم من رواية عبدة عن هشام فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه الحديث ، وقد سمي منهم في الأحاديث أنس كما في الحديث الذي بعده عند الإسماعيلي ، وجابر كما تقدم ، وأبو بكر كما في حديث جابر ، وعمر كما في رواية الحسن مرسلا عند عبد الرزاق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأشار إليهم ) كذا للأكثر هنا من الإشارة ، وكذا لجميعهم في الطب من رواية يحيى القطان عن هشام ، ووقع هنا للحموي " فأشار عليهم " من المشورة ، والأول أصح فقد رواه أيوب عن هشام بلفظ " فأومأ إليهم " ورواه عبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ فأخلف بيده يومئ بها إليهم وفي مرسل الحسن " ولم يبلغ بها الغاية " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) قال البيضاوي وغيره : الائتمام الاقتداء والاتباع أي جعل الإمام إماما ليقتدى به ويتبع ، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه ، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله ، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال . وقال النووي وغيره : متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة ، وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية فإنها لم تذكر وقد خرجت بدليل آخر ، وكأنه يعني قصة معاذ الآتية . ويمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثا أو حامل [ ص: 210 ] نجاسة فإن الصلاة خلفه تصح لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء ، ثم مع وجوب المتابعة ليس بشيء منها شرطا في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام ، واختلف في الائتمام والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول ، وخالف الحنفية فقالوا : تكفي المقارنة ، قالوا لأن معنى الائتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلا ، وسيأتي بعد باب الدليل على تحريم التقدم على الإمام في الأركان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإذا ركع فاركعوا ) قال ابن المنير : مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه وإما أن يسبقه الإمام بأوله فيشرع فيه بعد أن يشرع ، قال : وحديث أنس أتم من حديث عائشة لأنه زاد فيه المتابعة في القول أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : قد وقعت الزيادة المذكورة وهي قوله : " وإذا قال سمع الله لمن حمده " في حديث عائشة أيضا ، ووقع في رواية الليث عن الزهري عن أنس زيادة أخرى في الأقوال وهي قوله في أوله " فإذا كبر فكبروا " وسيأتي في " باب إيجاب التكبير " وكذا فيه من رواية الأعرج عن أبي هريرة ، وزاد في رواية عبدة عن هشام في الطب " وإذا رفع فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا " وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات ، وكذا وردت زيادة ذلك في حديث أنس الذي في الباب ، وقد وافق عائشة وأنسا وجابرا على رواية هذا الحديث دون القصة التي في أوله أبو هريرة ، وله طرق عنه عند مسلم منها ما اتفق عليه الشيخان من رواية همام عنه كما سيأتي في " باب إقامة الصف " وفيه جميع ما ذكر في حديث عائشة وحديث أنس بالزيادة ، وزاد أيضا بعد قوله ليؤتم به : " لا فلا تختلفوا عليه " ولم يذكرها المصنف في رواية أبي الزناد عن الأعرج عنه من طريق شعيب عن أبي الزناد في " باب إيجاب التكبير " لكن ذكرها السراج والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في المستخرج عنه من طريق أبي اليمان شيخ البخاري فيه وأبو عوانة من رواية بشر بن شعيب عن أبيه شيخ أبي اليمان ومسلم من رواية مغيرة بن عبد الرحمن والإسماعيلي من رواية مالك وورقاء كلهم عن أبي الزناد شيخ شعيب . وأفادت هذه الزيادة أن الأمر بالاتباع يعم جميع المأمومين ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتباع بعض دون بعض ، ولمسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح عنه " لا تبادروا الإمام ، إذا كبر فكبروا " الحديث ، زاد أبو داود من رواية مصعب بن محمد عن أبي صالح " ولا تركعوا حتى يركع ولا تسجدوا حتى يسجد " وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله إذا كبر فكبروا . ( فائدة ) : جزم ابن بطال ومن تبعه حتى ابن دقيق العيد أن الفاء في قوله : " فكبروا " للتعقيب ، قالوا ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام ، لكن تعقب بأن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة ، وأما التي هنا فهي للربط فقط لأنها وقعت جوابا للشرط ، فعلى هذا لا تقتضي تأخر أفعال المأموم عن الإمام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء ، وقد قال قوم إن الجزاء يكون مع الشرط ، فعلى هذا لا تنفي المقارنة ، لكن رواية أبي داود هذه صريحة في انتقاء التقدم والمقارنة والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية