الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        766 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر عن علي بن يحيى بن خلاد الزرقي عن أبيه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال من المتكلم قال أنا قال رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( المجمر ) بالخفض وهو صفة لنعيم ولأبيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن علي بن يحيى ) في رواية ابن خزيمة أن علي بن يحيى حدثه ، والإسناد كله مدنيون ، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر لأن نعيما أكبر سنا من علي بن يحيى وأقدم سماعا ، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق وهم من بين مالك والصحابي ، هذا من حيث الرواية وأما من حيث شرف الصحبة فيحيى بن خلاد والد علي مذكور في الصحابة لأنه قيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حنكه لما ولد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلما رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده ) ظاهره أن قول التسميع وقع بعد رفع الرأس من الركوع فيكون من أذكار الاعتدال ، وقد مضى في حديث أبي هريرة وغيره ما يدل على أنه ذكر [ ص: 334 ] الانتقال وهو المعروف ، ويمكن الجمع بينهما بأن معنى قوله " فلما رفع رأسه " أي فلما شرع في رفع رأسه ابتدأ القول المذكور وأتمه بعد أن اعتدل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال رجل ) زاد الكشميهني " وراءه " قال ابن بشكوال : هذا الرجل هو رفاعة بن رافع راوي الخبر ، ثم استدل على ذلك بما رواه النسائي وغيره عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة عن أبيه قال " صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعطست فقلت : الحمد لله " الحديث ، ونوزع تفسيره به لاختلاف سياق السبب والقصة ، والجواب أنه لا تعارض بينهما بل يحمل على أن عطاسه وقع عند رفع رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا مانع أن يكني عن نفسه لقصد إخفاء عمله ، أو كنى عنه لنسيان بعض الرواة لاسمه ، وأما ما عدا ذلك من الاختلاف فلا يتضمن إلا زيادة لعل الراوي اختصرها كما سنبينه ، وأفاد بشر بن عمر الزهراني في روايته عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة كانت المغرب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مباركا فيه ) زاد رفاعة بن يحيى مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فأما قوله " مباركا عليه " فيحتمل أن يكون تأكيدا وهو الظاهر ، وقيل الأول بمعنى الزيادة والثاني بمعنى البقاء ، قال الله تعالى : وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فهذا يناسب الأرض لأن المقصود به النماء والزيادة لا البقاء لأنه بصدد التغير . وقال تعالى وباركنا عليه وعلى إسحاق فهذا يناسب الأنبياء لأن البركة باقية لهم ، ولما كان الحمد يناسبه المعنيان جمعهما ، كذا قرره بعض الشراح ولا يخفى ما فيه . وأما قوله كما يحب ربنا ويرضى ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من المتكلم ) زاد رفاعة بن يحيى في الصلاة " فلم يتكلم أحد ، ثم قالها الثانية فلم يتكلم أحد ، ثم قالها الثالثة فقال رفاعة بن رافع : أنا . قال : كيف قلت ؟ فذكره . فقال : والذي نفسي بيده " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بضعة وثلاثين ) فيه رد على من زعم كالجوهري أن البضع يختص بما دون العشرين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أيهم يكتبها أول ) في رواية رفاعة بن يحيى المذكورة " أيهم يصعد بها أول " وللطبراني من حديث أبي أيوب " أيهم يرفعها " قال السهيلي روي أول بالضم على البناء لأنه ظرف قطع من الإضافة ، وبالنصب على الحال . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وأما " أيهم " فرويناه بالرفع وهو مبتدأ وخبره يكتبها ، قاله الطيبي وغيره تبعا لأبي البقاء في إعراب قوله تعالى : يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم قال : وهو في موضع نصب ، والعامل فيه ما دل عليه ( يلقون ) وأي استفهامية ، والتقدير مقول فيهم أيهم يكتبها ، ويجوز في أيهم النصب بأن يقدر المحذوف فينظرون أيهم ، وعند سيبويه أي موصولة ، والتقدير يبتدرون الذي هو يكتبها أول ، وأنكر جماعة من البصريين ذلك ، ولا تعارض بين روايتي يكتبها ويصعد بها لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها ، والظاهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة ، ويؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر الحديث . واستدل به على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة ، وقد استشكل تأخير رفاعة إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كرر سؤاله ثلاثا مع أن إجابته واجبة عليه ، بل وعلى كل من سمع رفاعة ، فإنه لم يسأل المتكلم وحده . وأجيب بأنه لما لم يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم ولا من واحد بعينه ، فكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب ، وحملهم [ ص: 335 ] على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء ظنا منهم أنه أخطأ فيما فعل ، ورجوا أن يقع العفو عنه . وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى سكوتهم فهم ذلك فعرفهم أنه لم يقل بأسا ، ويدل على ذلك أن في رواية سعيد بن عبد الجبار عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع قال رفاعة " فوددت أني خرجت من مالي وأني لم أشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الصلاة " . ولأبي داود من حديث عامر بن ربيعة قال من القائل الكلمة ؟ فإنه لم يقل بأسا . فقال : أنا قلتها ، لم أرد بها إلا خيرا وللطبراني من حديث أبي أيوب فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء كرهه . فقال : من هو ؟ فإنه لم يقل إلا صوابا . فقال الرجل : أنا يا رسول الله قلتها ، أرجو بها الخير ويحتمل أيضا أن يكون المصلون لم يعرفوه بعينه إما لإقبالهم على صلاتهم وإما لكونه في آخر الصفوف فلا يرد السؤال في حقهم ، والعذر عنه هو ما قدمناه ، والحكمة في سؤاله - صلى الله عليه وسلم - له عمن قال أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله . واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور [1] ، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه ، وعلى أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة ، وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس [2] وعلى تطويل الاعتدال بالذكر كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده . واستنبط منه ابن بطال جواز رفع الصوت بالتبليغ خلف الإمام ، وتعقبه الزين بن المنير بأن سماعه - صلى الله عليه وسلم - لصوت الرجل لا يستلزم رفعه لصوته كرفع صوت المبلغ ، وفي هذا التعقب نظر ، لأن غرض ابن بطال إثبات جواز الرفع في الجملة ، وقد سبقه إليه ابن عبد البر واستدل له بإجماعهم على أن الكلام الأجنبي يبطل عمده الصلاة ولو كان سرا ، قال : وكذلك الكلام المشروع في الصلاة لا يبطلها ولو كان جهرا . وقد تقدم الكلام على مسألة المبلغ في " باب من أسمع الناس تكبير الإمام " .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة ) : قيل الحكمة في اختصاص العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور ، فإن البضع مع الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفا ، ويعكر على هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى بناء على أن القصة واحدة . ويمكن أن يقال : المتبادر إليه هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله : " حمدا كثيرا إلخ " دون قوله " مباركا عليه " فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفا ، وأما ما وقع عند مسلم من حديث أنس لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني " ثلاثة عشر " فهو مطابق لعدد الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضا في سياق حديث الباب لكن على اصطلاح النحاة ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية