الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة

                                                                                                                                                                                                        851 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن هو ابن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر الم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان حين من الدهر [ ص: 439 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 439 ] قوله : ( باب ما يقرأ ) بضم الياء - ويجوز فتحها أي الرجل - ولم يقع قوله : ( يوم الجمعة ) في أكثر الروايات في الترجمة . وهو مراد . قال الزين بن المنير " ما " في قوله " ما يقرأ " الظاهر أنها موصولة لا استفهامية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا أبو نعيم ) في نسخة من رواية كريمة " حدثنا محمد بن يوسف " أي الفريابي ، وذكرا في بعض النسخ جميعا . وسفيان هو الثوري . وسعد بن إبراهيم أي ابن عبد الرحمن بن عوف نسبه النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره عن الثوري . وهو تابعي صغير ، وشيخه تابعي كبير ، وهما معا مدنيان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في الفجر يوم الجمعة ) في رواية كريمة والأصيلي " في الجمعة في صلاة الفجر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الم تنزيل ) بضم اللام على الحكاية ، زاد في رواية كريمة " السجدة " وهو بالنصب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهل أتى على الإنسان ) زاد الأصيلي في روايته " حين من الدهر " والمراد أن يقرأ في كل ركعة بسورة ، وكذا بينه مسلم من طريق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه بلفظ " الم تنزيل ، في الركعة الأولى ، وفي الثانية : هل أتى على الإنسان " وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر الصيغة به من مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أو إكثاره منه ، بل ورد من حديث ابن مسعود التصريح بمداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، أخرجه الطبراني ولفظه " يديم ذلك " وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة ورجاله ثقات ، لكن صوب أبو حاتم إرساله . وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال في الكلام على حديث الباب : ليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائما اقتضاء قويا ، وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب ، فإن الصيغة ليست نصا في المداومة لكن الزيادة التي ذكرناها نص في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        وقد أشار أبو الوليد الباجي في رجال البخاري إلى الطعن في سعد بن إبراهيم لروايته لهذا الحديث ، وأن مالكا امتنع من الرواية عنه لأجله ، وأن الناس تركوا العمل به لا سيما أهل المدينة اهـ .

                                                                                                                                                                                                        وليس كما قال ، فإن سعدا لم ينفرد به مطلقا ، فقد أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله ، وكذا ابن ماجه والطبراني من حديث ابن مسعود ، وابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص ، والطبراني في الأوسط من حديث علي . وأما دعواه أن الناس تركوا العمل به فباطلة ، لأن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين قد قالوا به كما نقله ابن المنذر وغيره ، حتى إنه ثابت عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف والد سعد وهو من كبار التابعين من أهل المدينة أنه أم الناس بالمدينة بهما في الفجر يوم الجمعة ، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ، وكلام ابن العربي يشعر بأن ترك ذلك أمر طرأ على أهل المدينة لأنه قال : وهو أمر لم يعلم بالمدينة ، فالله أعلم بمن قطعه كما قطع غيره اهـ . وأما امتناع مالك من الرواية عن سعد فليس لأجل هذا الحديث ، بل لكونه طعن في نسب مالك ، كذا حكاه ابن البرقي عن يحيى بن معين ، وحكى أبو حاتم عن علي بن المديني قال : كان سعد بن إبراهيم لا يحدث بالمدينة فلذلك لم يكتب عنه أهلها . وقال الساجي : أجمع [ ص: 440 ] أهل العلم على صدقه . وقد روى مالك عن عبد الله بن إدريس عن شعبة عنه ، فصح أنه حجة باتفاقهم . قال : ومالك إنما لم يرو عنه لمعنى معروف ، فأما أن يكون تكلم فيه فلا أحفظ ذلك اهـ . وقد اختلف تعليل المالكية بكراهة قراءة السجدة في الصلاة ، فقيل لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض ، قال القرطبي : وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث . وقيل لخشية التخليط على المصلين ، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية والسرية لأن الجهرية يؤمن معها التخليط ، لكن صح من حديث ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظهر فسجد بهم فيها ، أخرجه أبو داود والحاكم ، فبطلت التفرقة . ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض ، قال ابن دقيق العيد : أما القول بالكراهة مطلقا فيأباه الحديث ، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن تترك أحيانا لتندفع ، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة ، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات اهـ .

                                                                                                                                                                                                        وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله : ينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدرة ، ويقطع أحيانا لئلا تظنه العامة سنة اهـ . وهذا على قاعدتهم في التفرقة بين السنة والمستحب . وقال صاحب المحيط من الحنفية : يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره . وأما صاحب الهداية منهم فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي وإيهام التفضيل . وقول الطحاوي يناسب قول صاحب المحيط ، فإنه خص الكراهة بمن يراه حتما لا يجزئ غيره أو يرى القراءة بغيره مكروهة .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدتان ) الأولى : لم أر في شيء من الطرق التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - سجد لما قرأ سورة تنزيل السجدة في هذا المحل إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال غدوت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة في صلاة الفجر فقرأ سورة فيها سجدة فسجد الحديث ، وفي إسناده من ينظر في حاله . وللطبراني في الصغير من حديث علي " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة " لكن في إسناده ضعف .

                                                                                                                                                                                                        الثانية : قيل الحكمة في اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السجدة قصد السجود الزائد حتى أنه يستحب لمن لم يقرأ هذه السورة بعينها أن يقرأ سورة غيرها فيها سجدة ، وقد عاب ذلك على فاعله غير واحد من العلماء ، ونسبهم صاحب الهدي إلى قلة العلم ونقص المعرفة ، لكن عند ابن أبي شيبة بإسناد قوي عن إبراهيم النخعي أنه قال : يستحب أن يقرأ في الصبح يوم الجمعة بسورة فيها سجدة . وعنده من طريقه أيضا أنه فعل ذلك فقرأ سورة مريم . ومن طريق ابن عون قال : كانوا يقرءون في الصبح يوم الجمعة بسورة فيها سجدة . وعنده من طريقه أيضا قال : وسألت محمدا - يعني ابن سيرين - عنه فقال لا أعلم به بأسا اهـ .

                                                                                                                                                                                                        فهذا قد ثبت عن بعض علماء الكوفة والبصرة فلا ينبغي القطع بتزييفه . وقد ذكر النووي في زيادات الروضة هذه المسألة وقال : لم أر فيها كلاما لأصحابنا ، ثم قال : وقياس مذهبنا أنه يكره في الصلاة إذا قصده اهـ . وقد أفتى ابن عبد السلام قبله بالمنع وببطلان الصلاة بقصد ذلك ، قال صاحب المهمات : مقتضى كلام القاضي حسين الجواز . وقال الفارقي في فوائد المهذب : لا تستحب قراءة سجدة غير تنزيل ، فإن ضاق الوقت [ ص: 441 ] عن قراءتها قرأ بما أمكن منها ولو بآية السجدة منها ، ووافقه ابن أبي عصرون في كتاب الانتصار وفيه نظر .

                                                                                                                                                                                                        ( تكملة ) : قال الزين ابن المنير : مناسبة ترجمة الباب لما قبلها أن ذلك من جملة ما يتعلق بفضل يوم الجمعة لاختصاص صبحها بالمواظبة على قراءة هاتين السورتين . وقيل : إن الحكمة في هاتين السورتين الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة ، لأن ذلك كان وسيقع يوم الجمعة ، ذكره ابن دحية في العلم المشهور وقرره تقريرا حسنا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية