الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد

                                                                                                                                                                                                        943 حدثنا محمد هو ابن سلام قال أخبرنا أبو تميلة يحيى بن واضح عن فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق تابعه يونس بن محمد عن فليح وقال محمد بن الصلت عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة وحديث جابر أصح

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب من خالف الطريق ) أي التي توجه منها إلى المصلى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا محمد ) كذا للأكثر غير منسوب وفي رواية أبي علي بن السكن حدثنا محمد بن سلام ، وكذا للحفصي وجزم به الكلاباذي وغيره ، وفي نسخة من أطراف خلف أنه وجد في حاشية أنه محمد بن مقاتل . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وكذا هو في رواية أبي علي بن شبويه ، والأول هو المعتمد ، وقد رواه عن أبي تميلة أيضا - ممن اسمه محمد - محمد بن حميد الرازي لكنه خالف في اسم صاحبيه كما سيأتي ، وليس هو ممن خرج عنهم البخاري في صحيحه ، وأبو تميلة بالمثناة مصغرا مروزي قيل إن البخاري ذكره في الضعفاء لكن لم يوجد ذلك في التصنيف المذكور قاله الذهبي ، ثم إنه لم ينفرد به كما سيأتي . نعم تفرد به شيخه فليح وهو مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود ووثقه آخرون فحديثه من قبيل الحسن ، لكن له شواهد من حديث ابن عمر وسعد القرظ وأبي رافع وعثمان بن عبيد الله التيمي وغيرهم يعضد بعضها بعضا ، فعلى هذا هو من القسم الثاني من قسمي الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 548 ] قوله : ( عن سعيد بن الحارث ) هو ابن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) كان تامة ، أي إذا وقع ، وفي رواية الإسماعيلي " كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه " قال الترمذي : أخذ بهذا بعض أهل العلم فاستحبه للإمام ، وبه يقول الشافعي . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        والذي في " الأم " أنه يستحب للإمام والمأموم ، وبه قال أكثر الشافعية ، وقال الرافعي : لم يتعرض في الوجيز إلا للإمام اهـ . وبالتعميم قال أكثر أهل العلم ، ومنهم من قال إن علم المعنى وبقيت العلة بقي الحكم وإلا انتفى بانتفائها ، وإن لم يعلم المعنى بقي الاقتداء . وقال الأكثر يبقى الحكم ولو انتفت العلة للاقتداء كما في الرملي وغيره ، وقد اختلف في معنى ذلك على أقوال كثيرة اجتمع لي منها أكثر من عشرين ، وقد لخصتها وبينت الواهي منها ، قال القاضي عبد الوهاب المالكي : ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوى فارغة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان وقيل سكانهما من الجن والإنس ، وقيل ليسوى بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها لأنه كان معروفا بذلك ، وقيل لأن طريقه للمصلى كانت على اليمين فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها وهذا يحتاج إلى دليل ، وقيل لإظهار شعار الإسلام فيهما ، وقيل لإظهار ذكر الله ، وقيل ليغيظ المنافقين أو اليهود ، وقيل ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال ، وقيل حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما ، وفيه نظر ؛ لأنه لو كان كذلك لم يكرره قاله ابن التين ، وتعقب بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين ، لكن في رواية الشافعي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلا أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم ويرجع من الطريق الأخرى " وهذا لو ثبت لقوى بحث ابن التين ، وقيل فعل ذلك ليعمهم في السرور به أو التبرك بمروره وبرؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم وغير ذلك ، وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات ، وقيل ليصل رحمه ، وقيل ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا ، وقيل كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من يسأله وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى الدليل ، وقيل فعل ذلك لتخفيف الزحام وهذا رجحه الشيخ أبو حامد وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر فقال فيه ليسع الناس ، وتعقب بأنه ضعيف وبأن قوله ليسع الناس يحتمل أن يفسر ببركته وفضله وهذا الذي رجحه ابن التين .

                                                                                                                                                                                                        وقيل : كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من التي فيها فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطأ في الذهاب وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله وهذا اختيار الرافعي ، وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطا يكتب في الرجوع أيضا كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره ، فلو عكس ما قال لكان له اتجاه ويكون سلوك الطريق القريب للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك فضيلة أول الوقت ، وقيل لأن الملائكة تقف في الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم ، وقال ابن أبي جمرة : هو في معنى قول يعقوب لبنيه لا تدخلوا من باب واحد فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين وأشار صاحب الهدى إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تابعه يونس بن محمد عن فليح وحديث جابر أصح ) كذا عند جمهور رواة البخاري عن [ ص: 549 ] طريق الفربري ، وهو مشكل لأن قوله " أصح " يباين قوله " تابعه " إذ لو تابعه لساواه فكيف تتجه الأصحية الدالة على عدم المساواة . وذكر أبو علي الجياني أنه سقط قوله " وحديث جابر أصح " من رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري فلا إشكال فيها قال : ووقع في رواية ابن السكن " تابعه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة " وفي هذا توجيه قوله أصح ، ويبقى الإشكال في قوله تابعه فإنه لم يتابعه بل خالفه ، وقد أزال هذا الإشكال أبو نعيم في المستخرج فقال " أخرجه البخاري عن محمد عن أبي تميلة وقال : تابعه يونس بن محمد عن فليح ، وقال محمد بن الصلت : عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة ، وحديث جابر أصح " . وبهذا جزم أبو مسعود في الأطراف ، وكذا أشار إليه البرقاني ، وقال البيهقي : إنه وقع كذلك في بعض النسخ وكأنها رواية حماد بن شاكر عن البخاري . ثم راجعت رواية النسفي فلم يذكر

                                                                                                                                                                                                        قوله " وحديث جابر أصح " فسلم من الإشكال وهو مقتضى قول الترمذي " رواه أبو تميلة ويونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن جابر " فعلى هذا يكون سقط من رواية الفربري قوله : وقال محمد بن الصلت عن فليح " فقط وبقي ما عدا ذلك ، هذا على رواية أبي علي بن السكن ، وقد وقع كذلك في نسختي من رواية أبي ذر عن مشايخه ، وأما على رواية الباقين فيكون سقط إسناد محمد بن الصلت كله . وقال أبو علي الصدفي في حاشية نسخته التي بخطه من البخاري : لا يظهر معناه من ظاهر كتاب ، وإنما هي إشارة إلى أن أبا تميلة ويونس المتابع له خولفا في سند الحديث وروايتهما أصح ، ومخالفهما - وهو محمد بن الصلت - رواه عن فليح شيخهما فخالفهما في صاحبيه فقال : عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : فيكون معنى قوله " وحديث جابر أصح " أي من حديث من قال فيه عن أبي هريرة ، وقد اعترض أبو مسعود في الأطراف على قوله : تابعه يونس اعتراضا آخر فقال : إنما رواه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة لا جابر ، وأجيب بمنع الحصر فإنه ثابت عن يونس بن محمد كما قال البخاري أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس وكذا هو في مسنده ومصنفه ، نعم رواه ابن خزيمة والحاكم والبيهقي من طريق أخرى عن يونس بن محمد - كما قال أبو مسعود - وكأنه اختلف عليه فيه ، وكذا اختلف فيه على أبي تميلة فأخرجه البيهقي من وجه آخر عنه فقال عن أبي هريرة ، وأما رواية محمد بن الصلت المشار إليها فوصلها الدارمي وسمويه كلاهما عنه والترمذي وابن السكن والعقيلي كلهم من طريقه بلفظ كان إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره وذكر أبو مسعود أن الهيثم بن جميل رواه عن فليح - كما قال ابن الصلت - عن أبي هريرة . والذي يغلب على الظن أن الاختلاف فيه من فليح فلعل شيخه سمعه من جابر ومن أبي هريرة ، ويقوي ذلك اختلاف اللفظين ، وقد رجح البخاري أنه عن جابر وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجحا أنه عن أبي هريرة ولم يظهر لي في ذلك ترجيح والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية