الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إثم مانع الزكاة وقول الله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون

                                                                                                                                                                                                        1337 حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها تطؤه بأخفافها وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها وقال ومن حقها أن تحلب على الماء قال ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت [ ص: 315 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 315 ] قوله : ( باب إثم مانع الزكاة ) قال الزين بن المنير : هذه الترجمة أخص من التي قبلها لتضمن حديثها تعظيم إثم مانع الزكاة والتنصيص على عظيم عقوبته في الدار الآخرة ، وتبري نبيه منه بقوله : لا أملك لك من الله شيئا . وذلك مؤذن بانقطاع رجائه ، وإنما تتفاوت الواجبات بتفاوت المثوبات والعقوبات ، فما شددت عقوبته كان إيجابه آكد مما جاء فيه مطلق العقوبة ، وعبر المصنف بالإثم ليشمل من تركها جحدا أو بخلا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقول الله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ) فيه تلميح إلى تقوية قول من قال من الصحابة وغيرهم : إن الآية عامة في حق الكفار والمؤمنين ، خلافا لمن زعم أنها خاصة بالكفار ، وسيأتي ذكر ذلك في الباب الذي يليه ، إن شاء الله تعالى ، وذلك مأخوذ من قوله في حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب : أنا مالك ، أنا كنزك . وقد وقع نحو ذلك أيضا في الحديث الأول عند النسائي ، والطبراني في " مسند الشاميين " من طريق شعيب أيضا في آخر الحديث ، وأفرد البخاري الجملة المحذوفة فذكرها في تفسير براءة بهذا الإسناد باختصار .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : المراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم لا خصوص أحد السهام الثمانية التي هي مصارف الزكاة ، وإلا لاختص بالصرف إليه بمقتضى هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تأتي الإبل على صاحبها ) يعني يوم القيامة كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( على خير ما كانت ) أي من العظم والسمن ومن الكثرة ، لأنها تكون عنده على حالات مختلفة ، فتأتي على أكملها ، ليكون ذلك أنكى له لشدة ثقلها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا هو لم يعط فيها حقها ) أي لم يؤد زكاتها . وقد رواه مسلم من حديث أبي ذر بهذا اللفظ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تطؤه بأخفافها ) في رواية همام ، عن أبي هريرة في ترك الحيل : فتخبط وجهه بأخفافها . ولمسلم من طريق أبي صالح عنه : ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت ، لا يفقد منها فصيلا واحدا ، تطؤه بأخفافها ، وتعضه بأفواهها ، كلما مرت عليه أولاها ردت عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، ويرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار . وللمصنف من حديث أبي ذر : إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 316 ] ( تنبيه ) : كذا في أصل مسلم : كلما مرت عليه أولاها ردت عليه أخراها . قال عياض : قالوا هو تغيير وتصحيف ، وصوابه ما في الرواية التي بعده من طريق سهيل عن أبيه : كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها . وبهذا ينتظم الكلام ، وكذا وقع عند مسلم من حديث أبي ذر أيضا ، وأقره النووي على هذا ، وحكاه القرطبي وأوضح وجه الرد بأنه إنما يرد الأول الذي قد مر قبل ، وأما الآخر فلم يمر بعد ، فلا يقال فيه : رد . ثم أجاب بأنه يحتمل أن المعنى أن أول الماشية إذا وصلت إلى آخرها تمشي عليه تلاحقت بها أخراها ، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع فجاءت الأخرى أول ، حتى تنتهي إلى آخر الأولى . وكذا وجهه الطيبي فقال : إن المعنى أن أولاها إذا مرت على التتابع إلى أن تنتهي إلى الأخرى ، ثم ردت الأخرى من هذه الغاية وتبعها ما يليها إلى أن تنتهي أيضا إلى الأولى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في الغنم تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ) بكسر الطاء من تنطحه ، ويجوز الفتح . زاد في رواية أبي صالح المذكورة : ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء ، تنطحه بقرونها . وزاد فيه ذكر البقر أيضا وذكر في البقر والغنم ما ذكر في الإبل ، وسيأتي ذكر البقر في حديث أبي ذر أيضا في باب مفرد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال : ومن حقها أن تحلب على الماء ) بحاء مهملة ، أي لمن يحضرها من المساكين ، وإنما خص الحلب بموضع الماء ليكون أسهل على المحتاج من قصد المنازل وأرفق بالماشية . وذكره الداودي بالجيم ، وفسره بالإحضار إلى المصدق . وتعقبه ابن دحية ، وجزم بأنه تصحيف ، ووقع عند أبي داود من طريق أبي عمر الغداني ، عن أبي هريرة ما يوهم أن هذه الجملة مرفوعة ، ولفظه : قلنا : يا رسول الله ، ما حقها ؟ قال : إطراق فحلها ، وإعارة دلوها ، ومنحتها ، وحلبها على الماء ، وحمل عليها في سبيل الله . وسيأتي في أواخر الشرب هذه القطعة وحدها مرفوعة من وجه آخر عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا يأتي أحدكم ) في رواية النسائي من طريق علي بن عياش ، عن شعيب : " ألا لا يأتين أحدكم " وهذا حديث آخر متعلق بالغلول من الغنائم ، وقد أخرجه المصنف مفردا من طريق أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، ويأتي الكلام عليه في أواخر الجهاد ، إن شاء الله تعالى . وقوله في هذه الرواية : " لها يعار " بتحتانية مضمومة ، ثم مهملة : صوت المعز ، وفي رواية المستملي ، والكشميهني هنا : " ثغاء " بضم المثلثة ، ثم معجمة بغير راء ، ورجحه ابن التين ، وهو صياح الغنم . وحكى ابن التين ، عن القزاز أنه رواه " تعار " بمثناة ومهملة ، وليس بشيء . وقوله : " رغاء " بضم الراء ومعجمة : صوت الإبل ، وفي الحديث : إن الله يحيي البهائم ليعاقب بها مانع الزكاة . وفي ذلك معاملة له بنقيض قصده ، لأنه قصد منع حق الله منها ، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها ، فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه . والحكمة في كونها تعاد كلها مع أن حق الله فيها إنما هو في بعضها ، لأن الحق في جميع المال غير متميز ، ولأن المال لما لم تخرج زكاته غير مطهر ، وفيه أن في المال حقا سوى الزكاة ، وأجاب العلماء عنه بجوابين : أحدهما أن هذا الوعيد كان قبل فرض الزكاة ، ويؤيده ما سيأتي من حديث ابن عمر في الكنز ، لكن يعكر عليه أن فرض الزكاة متقدم على إسلام أبي هريرة كما تقدم تقريره . ثاني الأجوبة : أن المراد بالحق القدر الزائد على الواجب ولا عقاب بتركه ، وإنما ذكر استطرادا ، لما ذكر حقها بين الكمال فيه ، وإن كان له أصل يزول الذم بفعله وهو الزكاة ، ويحتمل أن يراد [ ص: 317 ] ما إذا كان هناك مضطر إلى شرب لبنها فيحمل الحديث على هذه الصورة . وقال ابن بطال : في المال حقان فرض عين وغيره ، فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : زاد النسائي في آخر هذا الحديث ، قال : ويكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع يفر منه صاحبه ويطلبه : أنا كنزك ، فلا يزال حتى يلقمه إصبعه . وهذه الزيادة قد أفرد البخاري بعضها كما قدمنا إلى قوله : " أقرع " ولم يذكر بقيته ، وكأنه استغنى عنه بطريق أبي صالح ، عن أبي هريرة وهو ثاني حديثي الباب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية