الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1465 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت [ ص: 466 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 466 ] قوله : ( لإحرامه ) أي لأجل إحرامه ، وللنسائي : " حين أراد أن يحرم " ولمسلم نحوه كما سيأتي قريبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولحله ) أي بعد أن يرمي ويحلق . واستدل بقولها : " كنت أطيب " على أن " كان " لا تقتضي التكرار ، لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة ، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع كما سيأتي في كتاب اللباس ، كذا استدل به النووي في " شرح مسلم " وتعقب بأن المدعى تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام ، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة ، ولا يخفى ما فيه . وقال النووي في موضع آخر : المختار أنها لا تقتضي تكرارا ولا استمرارا ، وكذا قال الفخر في " المحصول " ، وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه ، قال : ولهذا استفدنا من قولهم : " كان حاتم يقري الضيف " . أن ذلك كان يتكرر منه ، وقال جماعة من المحققين : إنها تقتضي التكرار ظهورا ، وقد تقع قرينة تدل على عدمه ، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك ، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر منه فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك ، على أن هذه اللفظة لم تتفق الرواة عنها عليها ، فسيأتي للبخاري من طريق سفيان بن عيينة ، عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك فيه هنا بلفظ : " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم " وسائر الطرق ليس فيها صيغة : " كان " ، والله أعلم . واستدل به على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام ، وجواز استدامته بعد الإحرام ، وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته ، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام ، وهو قول الجمهور . وعن مالك : يحرم ، ولكن لا فدية ، وفي رواية عنه تجب ، وقال محمد بن الحسن : يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى عينه بعده . واحتج المالكية بأمور : منها أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيب لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدمة في الغسل : ثم طاف بنسائه ثم أصبح محرما . فإن المراد بالطواف الجماع ، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة ، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر ، ويرده قوله في الرواية الماضية أيضا : ثم أصبح محرما ينضح طيبا . فهو ظاهر في أن نضح الطيب - وهو ظهور رائحته - كان في حال إحرامه ، ودعوى بعضهم أن فيه تقديما وتأخيرا ، والتقدير طاف على نسائه ينضح طيبا ، ثم أصبح محرما خلاف الظاهر ، ويرده قوله في رواية الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم عند مسلم : كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك . وللنسائي وابن حبان : رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم . وقال بعضهم : إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيب الذي تطيب به ، فزال وبقي أثره من غير رائحة ، ويرده قول عائشة ينضح طيبا . وقال بعضهم : بقي أثره لا عينه ، قال ابن العربي ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت . انتهى . وقد روى أبو داود ، وابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت طلحة ، عن عائشة قالت : كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا . فهذا صريح في بقاء عين الطيب ، ولا يقال : إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين . وقال بعضهم : كان ذلك طيبا لا رائحة له تمسكا برواية الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : بطيب لا يشبه طيبكم ، قال بعض رواته : يعني لا بقاء له أخرجه النسائي . ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله . ولمسلم من رواية منصور بن زاذان ، عن عبد الرحمن بن القاسم بطيب فيه مسك ، وله من طريق الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم : كأني أنظر إلى وبيص المسك وللشيخين من [ ص: 467 ] طريق عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه : بأطيب ما أجد . وللطحاوي ، والدارقطني من طريق نافع ، عن ابن عمر ، عن عائشة : " بالغالية الجيدة " . هذا يدل على أن قولها بطيب لا يشبه طيبكم ، أي أطيب منه ، لا كما فهمه القائل ، يعني ليس له بقاء . وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، قاله المهلب ، وأبو الحسن ، وأبو الفرج من المالكية ، قال بعضهم : لأن الطيب من دواعي النكاح ، فنهى الناس عنه ، وكان هو أملك الناس لإربه ففعله ، ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح ، وقد ثبت عنه أنه قال : حبب إلي النساء والطيب . أخرجه النسائي من حديث أنس ، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس . وقال المهلب : إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي ، وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية وكيف بها ، ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم . وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة ، قالت : طيبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم . وبقولها : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين . أخرجه الشيخان من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عنها ، وسيأتي من طريق سفيان ، عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ : " وأشارت بيديها " واعتذر بعض المالكية بأن عمل أهل المدينة على خلافه ، وتعقب بما رواه النسائي من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل العلم - منهم القاسم بن محمد ، وخارجة بن زيد ، وسالم ، وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة ، فكلهم أمر به . فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين ، قد اتفقوا على ذلك ، فكيف يدعى مع ذلك العمل على خلافه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولحله قبل أن يطوف بالبيت ) أي لأجل إحلاله من إحرامه قبل أن يطوف طواف الإفاضة ، وسيأتي في اللباس من طريق يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ : " قبل أن يفيض " . وللنسائي من هذا الوجه : " وحين يريد أن يزور البيت " . ولمسلم نحوه من طريق عمرة ، عن عائشة ، وللنسائي من طريق ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : ولحله بعدما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت . واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة ، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته على الطواف بالبيت ، وهو دال على أن للحج تحللين ، فمن قال : إن الحلق نسك - كما هو قول الجمهور ، وهو الصحيح عند الشافعية - يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه ، ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى ثم حلق ثم طاف ، فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها : " قبل أن يطوف بالبيت " . قال النووي في " شرح المهذب " : ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل بأن الحلق ليس بنسك إلا الشافعي ، وهو في رواية عن أحمد ، وحكي عن أبي يوسف ، واستدل به على جواز استدامة الطيب بعد الإحرام ، وخالف الحنفية فأوجبوا فيه الفدية قياسا على اللبس ، وتعقب بأن استدامة اللبس لبس واستدامة الطيب ليس بطيب ، ويظهر ذلك بما لو حلف . وقد تقدم التعقب على من زعم أن المراد بريق الدهن ، أو أثر الطيب الذي لا رائحة له بما فيه كفاية .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية