الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء جدار أو نحوه

                                                                                                                                                                                                        144 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربوا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب لا تستقبل القبلة ) في روايتنا بضم المثناة على البناء للمفعول وبرفع القبلة ، وفي غيرها بفتح الباء التحتانية على البناء للفاعل ونصب القبلة ، ولام تستقبل مضمومة على أن لا نافية ، ويجوز كسرها على أنها ناهية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا عند البناء جدار أو نحوه ) وللكشميهني " أو غيره " أي : كالأحجار الكبار والسواري والخشب وغيرها من السواتر . قال الإسماعيلي : ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور ، وأجيب بثلاثة أجوبة : أحدها أنه تمسك بحقيقة الغائط لأنه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء ، وهذه حقيقته اللغوية ، وإن كان قد صار يطلق على كل مكان أعد لذلك مجازا فيختص النهي به ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة ، وهذا الجواب للإسماعيلي وهو أقواها . ثانيها : أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء ، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا قاله ابن المنير ، ويتقوى بأن الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يصلى فيها فلا يكون فيها قبلة بحال ، وتعقب بأنه يلزم منه أن لا تصح صلاة من بينه وبين الكعبة مكان لا يصلح للصلاة ، وهو باطل . ثالثها : الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده ; لأن حديث [ ص: 296 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - كله كأنه شيء واحد قاله ابن بطال وارتضاه ابن التين وغيره ، لكن مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى ، فإن قيل لم حملتم الغائط على حقيقته ولم تحملوه على ما هو أعم من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان ، لا سيما والصحابي راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما لأنه قال - كما سيأتي عند المصنف في باب قبلة أهل المدينة في أوائل الصلاة - فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر ، فالجواب أن أبا أيوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه وهو المعتمد ، وكأنه لم يبلغه حديث التخصيص ، ولولا أن حديث ابن عمر دل على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتعميم ; لكن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم تأييد ذلك ، ولفظه عند أحمد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء . قال : ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة ، والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافا لمن زعمه ، بل هو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه ; لأن ذلك هو المعهود من حاله - صلى الله عليه وسلم - لمبالغته في التستر ، ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد كما سيأتي فكذا رواية جابر .

                                                                                                                                                                                                        ودعوى خصوصية ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا دليل عليها إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال ، ودل حديث ابن عمر الآتي على جواز استدبار القبلة في الأبنية ، وحديث جابر على جواز استقبالها ، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط ، ولا يقال : يلحق به الاستقبال قياسا ; لأنه لا يصح إلحاقه به لكونه فوقه ، وقد تمسك به قوم فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال حكي عن أبي حنيفة وأحمد وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقا ، قال الجمهور : وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق ، وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة ، ويؤيده من جهة النظر ما تقدم عن ابن المنير أن الاستقبال في البنيان مضاف إلى الجدار عرفا ، وبأن الأمكنة المعدة لذلك مأوى الشياطين فليست صالحة لكونها قبلة ، بخلاف الصحراء فيهما .

                                                                                                                                                                                                        وقال قوم بالتحريم مطلقا ، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد ، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي ، ورجحه من المالكية ابن العربي ، ومن الظاهرية ابن حزم ، وحجتهم أن النهي مقدم على الإباحة ، ولم يصححه حديث جابر الذي أشرنا إليه . وقال قوم بالجواز مطلقا ، وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود ، واعتلوا بأن الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة . فهذه المذاهب الأربعة مشهورة عن العلماء ، ولم يحك النووي في شرح المهذب غيرها .

                                                                                                                                                                                                        وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى : منها جواز الاستدبار في البنيان فقط تمسكا بظاهر حديث ابن عمر ، وهو قول أبي يوسف . ومنها التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس ، وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط رواه أبو داود وغيره ، وهو حديث ضعيف لأن فيه راويا مجهول الحال . وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها ; لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس ، وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة ، وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين ، وقد قال به بعض الشافعية أيضا حكاه ابن أبي الدم . ومنها أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها ، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا لعموم قوله : شرقوا أو غربوا [ ص: 297 ] قاله أبو عوانة صاحب المزني ، وعكسه البخاري فاستدل به على أنه ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة كما سيأتي في باب قبلة أهل المدينة من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلا يستقبل ) بكسر اللام لأن " لا " ناهية واللام في القبلة للعهد أي للكعبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا يولها ظهره ) ولمسلم " ولا يستدبرها " وزاد " ببول أو بغائط " والغائط الثاني غير الأول ، أطلق على الخارج من الدبر مجازا من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه ، وحصل من ذلك جناس تام ، والظاهر من قوله " ببول " اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة ، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة ، ويؤيده قوله في حديث جابر " إذا هرقنا الماء " . وقيل مثار النهي كشف العورة ، وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا ، وقد نقله ابن شاس المالكي قولا في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ لا تستقبلوا القبلة بفروجكم ولكنها محمولة على المعنى الأول أي : حال قضاء الحاجة جمعا بين الروايتين والله أعلم . وسيأتي الكلام على قول أبي أيوب " فننحرف ونستغفر " حيث أورده المصنف في أوائل الصلاة إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية