الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1484 حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى رضي الله عنه قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بما أهللت قلت أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال هل معك من هدي قلت لا فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي فقدم عمر رضي الله عنه فقال إن نأخذ بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام قال الله وأتموا الحج والعمرة لله وإن نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحل حتى نحر الهدي

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن طارق بن شهاب ) في رواية أيوب بن عائذ الآتية في المغازي عن قيس بن مسلم : " سمعت طارق بن شهاب " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي موسى ) هو الأشعري ، وفي رواية أيوب المذكورة : " حدثني أبو موسى " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن ) سيأتي تحرير وقت ذلك وسببه في كتاب المغازي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهو بالبطحاء ) زاد في رواية شعبة ، عن قيس الآتية في " باب : متى يحل المعتمر " منيخ ؛ أي نازل بها ، وذلك في ابتداء قدومه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بم أهللت ) في رواية شعبة : فقال : أحججت ؟ قلت : نعم . قال : بم أهللت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قلت : أهللت ) في رواية شعبة : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أحسنت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأمرني فطفت ) في رواية شعبة : " طف بالبيت وبالصفا والمروة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأتيت امرأة من قومي ) في رواية شعبة " امرأة من قيس " والمتبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق أنها من قيس غيلان ، وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة لكن في رواية أيوب بن عائذ امرأة من نساء بني قيس وظهر لي من ذلك أن المراد بقيس ، قيس بن سليم والد أبي موسى الأشعري وأن المرأة زوج بعض إخوته ، وكان لأبي موسى من الإخوة أبو رهم ، وأبو بردة ، قيل : ومحمد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أو غسلت رأسي ) كذا فيه بالشك ، وأخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان بلفظ : " وغسلت رأسي " بواو العطف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقدم عمر ) ظاهر سياقه أن قدوم عمر كان في تلك الحجة ، وليس كذلك ، بل البخاري اختصره ، وقد أخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي أيضا بعد قوله : وغسلت رأسي : فكنت أفتي الناس بذاك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر ، فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل ، فقال : إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك " . فذكر القصة وفيه : " فلما قدم قلت : يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي أحدثت في [ ص: 489 ] شأن النسك " ؟ فذكر جوابه . وقد اختصره المصنف أيضا من طريق شعبة لكنه أبين من هذا ، ولفظه : " فكنت أفتي به حتى كانت خلافة عمر فقال : إن أخذنا " ، الحديث . ولمسلم أيضا من طريق إبراهيم بن أبي موسى الأشعري ، عن أبيه أنه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ، الحديث . وفي هذه الرواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كره التمتع وهي قوله : قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن - أي بالنساء - ثم يروحوا في الحج تقطر رءوسهم انتهى ، وكان من رأي عمر عدم الترفه للحج بكل طريق ، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء ، لئلا يستمر الميل إلى ذلك بخلاف من بعد عهده به ، ومن يفطم ينفطم . وقد أخرج مسلم من حديث جابر ، أن عمر قال : " افصلوا حجكم من عمرتكم ، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم . وفي رواية : إن الله يحل لرسوله ما شاء ، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن نأخذ بكتاب الله . . . إلخ ) محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام ، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج ، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا دالة على ذلك ، لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله ، لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : ولولا أن معي الهدي لأحللت . فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي ، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر في ذلك أنه منع منه سدا للذريعة ، وقال المازري : قيل : إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة ، وقيل : العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه ، وعلى الثاني إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل ، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها . وقال عياض : الظاهر أنه نهى عن الفسخ ، ولهذا كان يضرب الناس عليها كما رواه مسلم بناء على معتقده أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة ، قال النووي : والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه ، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد كما يظهر من كلامه ، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة ونفي الاختلاف في الأفضل كما سيأتي في الباب الذي بعده ، ويمكن أن يتمسك من يقول بأنه إنما نهى عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا من مسلم : إن الله يحل لرسوله ما شاء . والله أعلم . وفي قصة أبي موسى وعلي دلالة على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل ، وذلك أن أبا موسى لم يكن منه هدي ، فصار له حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، لو لم يكن معه هدي ، وقد قال : لولا الهدي لأحللت ؛ أي وفسخت الحج إلى العمرة كما فعله أصحابه بأمره كما سيأتي ، وأما علي ، فكان معه هدي ، فلذلك أمره بالبقاء على إحرامه ، وصار مثله قارنا . قال النووي : هذا هو الصواب ، وقد تأوله الخطابي وعياض بتأويلين غير مرضيين . انتهى . فأما تأويل الخطابي ، فإنه قال : فعل أبي موسى يخالف فعل علي ، وكأنه أراد بقوله : أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي كما يبينه لي ، ويعينه لي من أنواع ما يحرم به ، فأمره أن يحل بعمل عمرة ، لأنه لم يكن معه هدي ، وأما تأويل عياض ، فقال : المراد بقوله : " فكنت أفتي الناس بالمتعة " ؛ أي بفسخ الحج إلى العمرة ، والحامل لهما على ذلك اعتقادهما أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا مع قوله : لولا أن معي الهدي لأحللت ؛ أي فسخت الحج وجعلته عمرة ، فلهذا أمر أبا موسى بالتحلل ، لأنه لم يكن معه هدي ، بخلاف علي . قال عياض : وجمهور الأئمة على أن فسخ الحج إلى العمرة كان [ ص: 490 ] خاصا بالصحابة . انتهى . وقال ابن المنير في الحاشية : ظاهر كلام عمر التفريق بين ما دل عليه الكتاب ودلت عليه السنة ، وهذا التأويل يقتضي أنهما يرجعان إلى معنى واحد ، ثم أجاب بأنه لعله أراد إبطال وهم من توهم أنه خالف السنة ، حيث منع من الفسخ ، فبين أن الكتاب والسنة متوافقان على الأمر بالإتمام ، وأن الفسخ كان خاصا بتلك السنة لإبطال اعتقاد الجاهلية أن العمرة لا تصح في أشهر الحج . انتهى . وأما إذا قلنا : كان قارنا على ما هو الصحيح المختار ، فالمعتمد ما ذكر النووي ، والله أعلم . وسيأتي بيان اختلاف الصحابة في كيفية التمتع في " باب التمتع والقران " ، إن شاء الله تعالى . واستدل به على جواز الإحرام المبهم ، وأن المحرم به يصرفه لما شاء ، وهو قول الشافعي وأصحاب الحديث ، ومحل ذلك ما إذا كان الوقت قابلا بناء على أن الحج لا ينعقد في غير أشهره ، كما سيأتي في الباب الذي يليه .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية