الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1776 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح الشأم فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبيه ) هو عروة بن الزبير ، وعبد الله بن الزبير أخوه . وفي الإسناد صحابي عن صحابي وتابعي عن تابعي ؛ لأن هشاما قد لقي بعض الصحابة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن سفيان بن أبي زهير ) كذا للأكثر ، ورواه حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه كذلك ، وقال في آخره : " قال عروة ثم لقيت سفيان بن أبي زهير عند موته فأخبرني بهذا الحديث " ، وذكر علي بن المديني أنه اختلف فيه على هشام اختلافا آخر ، فقال وهيب وجماعة كما قال مالك ، وقال ابن عيينة عن هشام بسنده : عن سفيان بن الغوث ، وقال أبو معاوية عن هشام بسنده : عن سفيان بن عبد الله الثقفي قلت : قد رواه الحميدي عن سفيان على الصواب ، ورواه أبو خيثمة عن جرير فقال : سفيان بن أبي قلابة ، كأنه عرف خطأ جرير فكنى عنه ، واسم أبي زهير القرد بفتح القاف وكسر الراء بعدها مهملة [ ص: 110 ] وقيل : نمير ، وهو الشنوئي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون ، وبعد الواو همزة مفتوحة ، وفي النسب كذلك ، وقيل : بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو ، وشنوءة هو عبد الله بن كعب بن مالك بن نضر بن الأزد ، وسمي شنوءة لشنآن كان بينه وبين قومه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تفتح اليمن ) قال ابن عبد البر وغيره : افتتحت اليمن في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيام أبي بكر ، وافتتحت الشام بعدها ، والعراق بعدها . وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ترتيبه ، ووقع تفرق الناس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء ، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرا لهم . وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة ، وهو أمر مجمع عليه . وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض ، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلا على غيرها ، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يبسون ) بفتح أوله وضم الموحدة وبكسرها من بس يبس . قال ابن عبد البر : في رواية يحيى بن يحيى بكسر الموحدة ، وقيل : إن ابن القاسم رواه بضمها ، قال أبو عبيد : معناه يسوقون دوابهم ، والبس سوق الإبل ، تقول : بس بس ، عند السوق وإرادة السرعة . وقال الداودي : معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطئونه من الأرض من شدة السير فيصير غبارا . قال تعالى : وبست الجبال بسا أي : سالت سيلا ، وقيل : معناه سارت سيرا ، وقال ابن القاسم : البس المبالغة في الفت ومنه قيل : للدقيق المصنوع بالدهن : بسيس ، وأنكر ذلك النووي وقال : إنه ضعيف أو باطل . قال ابن عبد البر : وقيل : معنى " يبسون " يسألون عن البلاد ويستقرئون أخبارها ليسيروا إليها . قال : وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة . وقيل : معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكناها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها ، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة عند مسلم : " يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه : هلم إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون ، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك ، فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن عبد البر : وروي " يبسون " بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي من أبس إبساسا ، ومعناه يزينون لأهلهم البلد التي يقصدونها ، وأصل الإبساس للتي تحلب حتى تدر باللبن ، وهو أن يجري يده على وجهها وصفحة عنقها كأنه يزين لها ذلك ويحسنه لها ، وإلى هذا ذهب ابن وهب ، وكذا رواه ابن حبيب عن مطرف عن مالك يبسون من الرباعي ، وفسره بنحو ما ذكرنا ، وأنكر الأول غاية الإنكار .

                                                                                                                                                                                                        وقال النووي : الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة . قلت : ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة في هذا الحديث بلفظ : " تفتح الشام ، فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ويوضح ذلك ما روى أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ، ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات ، وهو يوضح ما قلناه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وروى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصة أخرجها من طريق بشر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين [ ص: 111 ] يذكرون " أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في بعث بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إليه يستحمله ، فخرج معه يبتغي له بعيرا فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي ، فسامه له ، فقال له أبو جهم : لا أبيعكها يا رسول الله ، ولكن خذه فاحمل عليه من شئت . ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال : يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان ، ويوشك الشام أن يفتح فيأتيه رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه ، والمدينة خير لهم " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لو كانوا يعلمون ) أي : بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي وثواب الإقامة فيها وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون " لو " بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير ، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها ، قالوا : والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها ، وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قال الطيبي : الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل ما لا يعلمون منزلة اللازم ؛ لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية ، ولو ذهب مع ذلك إلى التمني لكان أبلغ ؛ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله ، أي : ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا ، وقال البيضاوي : المعنى أنه يفتح اليمن فيعجب قوما بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهلهم حتى يخرجوا من المدينة ، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم ؛ لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها . وقواه الطيبي لتنكير قوم ووصفهم بكونهم يبسون ، ثم توكيده بقوله : " لو كانوا يعلمون " ؛ لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني ، وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ، ولذلك كرر قوما ووصفه في كل قرية بقوله : " يبسون " استحضارا لتلك الهيئة القبيحة ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية