الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وقال صلة عن عمار من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        1807 حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له [ ص: 143 ] [ ص: 144 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 143 ] [ ص: 144 ] قوله : ( باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الهلال فصوموا ) هذه الترجمة لفظ مسلم من رواية إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة ، وقد سبق للمصنف في أول الصيام من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبيه بلفظ : " إذا رأيتموه " وذكر البخاري في الباب أحاديث تدل على نفي صوم يوم الشك رتبها ترتيبا حسنا : فصدرها بحديث عمار المصرح بعصيان من صامه ، ثم بحديث ابن عمر من وجهين ، أحدهما بلفظ : فإن غم عليكم فاقدروا له ، والآخر بلفظ : فأكملوا العدة ثلاثين وقصد بذلك بيان المراد من قوله : " فاقدروا له " ، ثم استظهر بحديث ابن عمر أيضا : الشهر هكذا وهكذا ، وحنس الإبهام في الثالثة ثم ذكر شاهدا من حديث أبي هريرة لحديث ابن عمر مصرحا بأن عدة الثلاثين المأمور بها تكون من شعبان ، ثم ذكر شاهدا لحديث ابن عمر في كون الشهر تسعا وعشرين من حديث أم سلمة مصرحا فيه بأن الشهر تسع وعشرون ، ومن حديث أنس كذلك ، وسأتكلم عليها حديثا حديثا ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال صلة عن عمار إلخ ) أما صلة فهو بكسر المهملة وتخفيف اللام المفتوحة ابن زفر بزاي وفاء وزن عمر كوفي عبسي بموحدة ومهملة من كبار التابعين وفضلائهم ، ووهم ابن حزم فزعم أنه صلة بن أشيم ، والمعروف أنه ابن زفر ، وكذا وقع مصرحا به عند جمع ممن وصل هذا الحديث ، وقد وصله أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عنه ولفظه : عندهم " كنا عند عمار بن ياسر فأتي بشاة مصلية فقال : كلوا . فتنحى بعض القوم فقال : إني صائم . فقال عمار : من صام يوم الشك " وفي رواية ابن خزيمة وغيره : " من صام اليوم الذي يشك فيه " وله متابع بإسناد حسن ، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن ربعي " أن عمارا وناسا معه أتوهم يسألونهم في اليوم الذي يشك فيه ، فاعتزلهم رجل ، فقال له عمار : تعال فكل . فقال : إني صائم ، فقال له عمار : إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فتعال وكل . " ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن منصور عن ربعي عن رجل ، عن عمار ، وله شاهد من وجه آخر أخرجه إسحاق بن راهويه من رواية سماك ، عن عكرمة . ومنهم من وصله بذكر ابن عباس فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ) استدل به على تحريم صوم يوم الشك ؛ لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه ، فيكون من قبيل المرفوع . قال ابن عبد البر : هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك . وخالفهم الجوهري المالكي فقال : هو موقوف . والجواب أنه موقوف لفظا مرفوع حكما . قال الطيبي : إنما أتى بالموصول ولم يقل : " يوم الشك " مبالغة في أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع ، فكيف بمن صام يوما الشك فيه قائم ثابت ، ونحوه قوله تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أي : الذين أونس منهم أدنى ظلم ، فكيف بالظلم المستمر عليه؟

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد علمت أنه وقع في كثير من الطرق بلفظ : " يوم الشك " وقوله : " أبا القاسم " قيل : فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زمانا ومكانا وغير ذلك ، وأما حديث ابن عمر فاتفق الرواة عن مالك عن نافع فيه على قوله : " فاقدروا له " وجاء من وجه آخر عن نافع بلفظ : " فاقدروا ثلاثين " كذلك أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع ، وهكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع . قال عبد الرزاق : وأخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع به وقال : " فعدوا ثلاثين " واتفق الرواة عن مالك عن عبد الله بن دينار [ ص: 145 ] أيضا فيه على قوله : " فاقدروا له " وكذلك رواه الزعفراني وغيره عن الشافعي ، وكذا رواه إسحاق الحربي وغيره في " الموطأ " عن القعنبي ، وأخرجه الربيع بن سليمان والمزني عن الشافعي فقال فيه كما قاله البخاري هنا عن القعنبي : فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين قال البيهقي في " المعرفة " : إن كانت رواية الشافعي والقعنبي من هذين الوجهين محفوظة ، فيكون مالك قد رواه على الوجهين . قلت : ومع غرابة هذا اللفظ من هذا الوجه فله متابعات ، منها : ما رواه الشافعي أيضا من طريق سالم عن ابن عمر بتعيين الثلاثين . ومنها : ما رواه ابن خزيمة من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه ، عن ابن عمر بلفظ : فإن غم عليكم فكملوا ثلاثين وله شواهد من حديث حذيفة عند ابن خزيمة ، وأبي هريرة وابن عباس عند أبي داود والنسائي وغيرهما ، وعن أبي بكرة وطلق بن علي عند البيهقي ، وأخرجه من طرق أخرى عنهم وعن غيرهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ) ظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل ، وبعض العلماء فرق بين ما قبل الزوال أو بعد ، وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقا ، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال ، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها ، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به ، لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة ، وهو قوله : " فإن غم عليكم فاقدروا له " فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم ، فيكون التعليق على الرؤية متعلقا بالصحو ، وأما الغيم فله حكم آخر .

                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن لا تفرقة ، ويكون الثاني مؤكدا للأول ، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة ، وإلى الثاني ذهب الجمهور ، فقالوا : المراد بقوله : " فاقدروا له " أي : انظروا في أول الشهر ، واحسبوا تمام الثلاثين ، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخر المصرحة بالمراد ، وهي ما تقدم من قوله : " فأكملوا العدة ثلاثين " ونحوها ، وأولى ما فسر الحديث بالحديث ، وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضا فرواها البخاري كما ترى بلفظ : " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " وهذا أصرح ما ورد في ذلك ، وقد قيل : إن آدم شيخه انفرد بذلك ، فإن أكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه : فعدوا ثلاثين أشار إلى ذلك الإسماعيلي وهو عند مسلم وغيره . قال : فيجوز أن يكون آدم أورده على ما وقع عنده من تفسير الخبر .

                                                                                                                                                                                                        قلت : الذي ظنه الإسماعيلي صحيح ، فقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن يزيد عن آدم بلفظ : " فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما " يعني : عدوا شعبان ثلاثين ، فوقع للبخاري إدراج التفسير في نفس الخبر . ويؤيده رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ : لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين فإنه يشعر بأن المأمور بعدده هو شعبان ، وقد رواه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد بلفظ : " فأكملوا العدد " وهو يتناول كل شهر فدخل فيه شعبان ، وروى الدارقطني وصححه وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان ، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام وأخرجه أبو داود وغيره أيضا . وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة من طريق ربعي عن حذيفة مرفوعا " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة وقيل : الصواب فيه عن ربعي عن رجل من الصحابة مبهم ، ولا يقدح ذلك في صحته .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن الجوزي في " التحقيق " لأحمد في هذه المسألة - وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة [ ص: 146 ] أقوال : أحدها : يجب صومه على أنه من رمضان . ثانيها : لا يجوز فرضا ولا نفلا مطلقا ، بل قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة ، وبه قال الشافعي . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز عن فرض رمضان ، ويجوز عما سوى ذلك . ثالثها : المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر . واحتج الأول بأنه موافق لرأي الصحابي راوي الحديث . قال أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث بلفظ : " فاقدروا له " قال نافع : فكان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر ، فإن رأى فذاك ، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال أصبح صائما .

                                                                                                                                                                                                        وأما ما روى الثوري في " جامعه " عن عبد العزيز بن حكيم سمعت ابن عمر يقول : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فالجمع بينهما أنه في الصورة التي أوجب فيها الصوم لا يسمى يوم شك ، وهذا هو المشهور عن أحمد أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته ، فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكا . واختار كثير من المحققين من أصحابه الثاني . قال ابن عبد الهادي في تنقيحه : الذي دلت عليه الأحاديث - وهو مقتضى القواعد - أنه أي شهر غم أكمل ثلاثين ؛ سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما ، فعلى هذا قوله : " فأكملوا العدة " يرجع إلى الجملتين ، وهو قوله : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة أي : غم عليكم في صومكم أو فطركم ، وبقية الأحاديث تدل عليه ، فاللام في قوله : فأكملوا العدة للشهر أي : عدة الشهر ، ولم يخص - صلى الله عليه وسلم - شهرا دون شهر بالإكمال إذا غم ، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك ، إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لبينه فلا تكون رواية من روى : فأكملوا عدة شعبان مخالفة لمن قال : فأكملوا العدة بل مبينة لها . ويؤيد ذلك قوله في الرواية الأخرى : فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا . أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس هكذا ، ورواه الطيالسي من هذا الوجه بلفظ : ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان وروى النسائي من طريق محمد بن حنين عن ابن عباس بلفظ : فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فاقدروا له ) تقدم أن للعلماء فيه تأويلين ، وذهب آخرون إلى تأويل ثالث ، قالوا : معناه فاقدروه بحساب المنازل . قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين . قال ابن عبد البر : لا يصح عن مطرف ، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا . قال : ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج ، والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور ، ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله : " فاقدروا له " خطاب لمن خصه الله بهذا العلم ، وأن قوله : " فأكملوا العدة " خطاب للعامة . قال ابن العربي : فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر ، وعلى آخرين بحساب العدد ، قال : وهذا بعيد عن النبلاء .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن الصلاح : معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة ، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد ، قال : فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم ، وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه . ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه ، وإنما قال بجوازه ، وهو اختيار القفال وأبي الطيب ، وأما أبو إسحاق في " المهذب " فنقل عن ابن [ ص: 147 ] سريج لزوم الصوم في هذه الصورة ، فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل : أحدها : الجواز ولا يجزئ عن الفرض ، ثانيها : يجوز ويجزئ ، ثالثها : يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم ، رابعها : يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم ، خامسها : يجوز لهما ولغيرهما مطلقا . وقال ابن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا . قلت : ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك . فقال في " الإشراف " : صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة ، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته ، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره ، فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله ، وسيأتي بقية البحث في ذلك بعد باب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية