الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1863 حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد قالا أخبرنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا إنك تواصل قال إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين قال أبو عبد الله لم يذكر عثمان رحمة لهم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عبدة ) هو ابن سليمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رحمة لهم ) فيه إشارة إلى بيان السبب أيضا ، ويؤيد ذلك ذكر المشقة في الرواية التي قبلها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو عبد الله ) هو المصنف ( لم يذكر عثمان ) أي : ابن أبي شيبة شيخه في الحديث المذكور قوله : ( رحمة لهم ) فدل على أنها من رواية محمد بن سلام وحده ، قد أخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة جميعا وفيه : " رحمة لهم " ولم يبين أنها ليست في رواية عثمان . وقد أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان في مسنديهما عن عثمان وليس فيه : " رحمة لهم " وأخرجه الإسماعيلي عنهما كذلك ، وأخرجه الجوزقي من طريق محمد بن حاتم عن عثمان وفيه : " رحمة لهم " فيحتمل أن يكون عثمان كان تارة يذكرها وتارة يحذفها ، وقد رواها الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن عثمان فجعل ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه : قالوا : إنك تواصل ، قال : إنما هي رحمة رحمكم الله بها إني لست كهيئتكم الحديث .

                                                                                                                                                                                                        واستدل بمجموع هذه الأحاديث على أن الوصال من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى أن غيره ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر ، ثم اختلف في المنع المذكور : فقيل : على سبيل التحريم ، وقيل : على سبيل الكراهة ، وقيل : يحرم على من شق عليه ويباح لمن لم يشق عليه ، وقد اختلف السلف في ذلك فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير ، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوما ، [ ص: 241 ] وذهب إليه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في " الحلية " وغيرهم رواه الطبري وغيره ، ومن حجتهم ما سيأتي في الباب بعده أنه - صلى الله عليه وسلم - واصل بأصحابه بعد النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله ، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها ، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه ، وسيأتي نظير ذلك في صيام الدهر ، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال .

                                                                                                                                                                                                        وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال ، وعن الشافعية في ذلك وجهان : التحريم والكراهة ، هكذا اقتصر عليه النووي ، وقد نص الشافعي في " الأم " على أنه محظور ، وأغرب القرطبي فنقل التحريم عن بعض أهل الظاهر على شك منه في ذلك ، ولا معنى لشكه ، فقد صرح ابن حزم بتحريمه وصححه ابن العربي من المالكية ، وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور ، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه يؤخره ؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة ، فإذا أكلها السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل ، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم ، وإلا فلا يكون قربة ، وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالا بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار ، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالا لمشابهته الوصال في الصورة ، ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل ، وقد ورد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواصل من سحر إلى سحر أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي ، والطبراني من حديث جابر ، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلا من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه ومن طريق أبي قلابة ، وأخرجه عبد الرزاق من طريق عطاء ، واحتجوا للتحريم بقوله في الحديث المتقدم : إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر ، وأجابوا أيضا بأن قوله : " رحمة لهم " لا يمنع التحريم ، فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم ، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا ، فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهي في أكيد زجرهم ؛ لأنهم إذا باشروا ظهرت لهم حكمة النهي ، وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك ، والجوع الشديد ينافي ذلك ، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله : " لست في ذلك مثلكم " وقوله : " لست كهيئتكم " هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدم في بابه .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود الذي قدمت التنبيه عليه في أوائل الباب ، فإن الصحابي صرح فيه بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم الوصال ، وروى البزار والطبراني من حديث سمرة : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ، وليس بالعزيمة وأما ما رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي ذر : أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك فليس إسناده بصحيح فلا حجة فيه ، ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي ، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم ، وإلا لما أقدموا عليه ، ويؤيد [ ص: 242 ] أنه ليس بمحرم أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث بشير بن الخصاصية الذي ذكرته في أول الباب سوى في علة النهي بين الوصال وبين تأخير الفطر ، حيث قال في كل منهما : " إنه فعل أهل الكتاب " ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتد به من أهل الظاهر ، ومن حيث المعنى ما فيه من فطم النفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقا أو مقيدا من تقدم ذكره ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وفي أحاديث الباب من الفوائد استواء المكلفين في الأحكام ، وأن كل حكم ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حق أمته إلا ما استثني بدليل ، وفيه جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي بسر المخالفة ، وفيه الاستكشاف عن حكمة النهي ، وفيه ثبوت خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وأن عموم قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة مخصوص ، وفيه أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ، ويبادرون إلى الائتساء به إلا فيما نهاهم عنه ، وفيه أن خصائصه لا يتأسى به في جميعها ، وقد توقف في ذلك إمام الحرمين ، وقال أبو شامة ليس لأحد التشبه به في المباح كالزيادة على أربع نسوة ، ويستحب التنزه عن المحرم عليه والتشبه به في الواجب عليه كالضحى ، وأما المستحب فلم يتعرض له ، والوصال منه فيحتمل أن يقال : إن لم ينه عنه لم يمنع الائتساء به فيه ، والله أعلم . وفيه بيان قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر ، كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية