الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب حق الجسم في الصوم

                                                                                                                                                                                                        1874 حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل فقلت بلى يا رسول الله قال فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله فشددت فشدد علي قلت يا رسول الله إني أجد قوة قال فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه قلت وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام قال نصف الدهر فكان عبد الله يقول بعد ما كبر يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب حق الجسم في الصوم ) أي : على المتطوع ، والمراد بالحق هنا المطلوب ، أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا ، فأما الواجب فيختص بما إذا خاف التلف ، وليس مرادا هنا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أخبرنا عبد الله ) هو ابن المبارك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ) زاد مسلم من رواية عكرمة بن عمار عن يحيى : " فقلت : بلى يا نبي الله ، ولم أرد بذلك إلا الخير " وفي الباب الذي يليه : " أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أقول : والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت " وللنسائي من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة [ ص: 257 ] قال : قال لي عبد الله بن عمرو : يا ابن أخي ، إني قد كنت أجمعت على أن أجتهد اجتهادا شديدا ، حتى قلت : " لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن في كل ليلة " ويأتي في " فضائل القرآن " من طريق مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : " أنكحني أبي امرأة ذات حسب وكان يتعاهدها ، فسألها عن بعلها فقالت : نعم الرجل من رجل ، لم يطأ لنا فراشا ، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه . فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لي الفتى . فلقيته بعد " فذكر الحديث ، زاد النسائي وابن خزيمة وسعيد بن منصور من طريق أخرى عن مجاهد " فوقع علي أبي فقال : زوجتك امرأة فعضلتها وفعلت وفعلت وفعلت . قال : فلم ألتفت إلى ذلك لما كانت لي من القوة ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألقني به ، فأتيته معه " ولأحمد من هذا الوجه : " ثم أنطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكاني " وسيأتي بعد أبواب من طريق أبي المليح عن عبد الله بن عمرو قال : " ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - صومي ، فدخل علي ، فألقيت له وسادة " ويأتي بعد باب من طريق أبي العباس عن عبد الله بن عمرو " بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أسرد الصوم وأصلي الليل ، فإما أرسل لي وإما لقيته " ويجمع بينهما بأن يكون عمرو توجه بابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك ، ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلا تفعل ) زاد بعد بابين : " فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين " الحديث ، وقد تقدم تفسيره في كتاب التهجد ، وزاد في رواية ابن خزيمة من طريق حصين عن مجاهد : " إن لكل عامل شرة " وهو بكسر المعجمة وتشديد الراء : " ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن لعينيك عليك حقا ) في رواية الكشميهني : " لعينك " بالإفراد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن لزورك ) بفتح الزاي وسكون الواو لضيفك ، والزور مصدر وضع موضع الاسم ، كصوم في موضع صائم ، ونوم في موضع نائم ، ويقال للواحد والجمع والذكر والأنثى : زور ، قال ابن التين : ويحتمل أن يكون زور جمع زائر ، كركب جمع راكب ، وتجر جمع تاجر ، زاد مسلم من طريق حسين المعلم عن يحيى : " وإن لولدك عليك حقا " وزاد النسائي من طريق أبي إسماعيل عن يحيى : " وإنه عسى أن يطول بك عمر " وفيه إشارة إلى ما وقع لعبد الله بن عمرو بعد ذلك من الكبر والضعف كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن بحسبك ) بإسكان السين المهملة أي : كافيك ، والباء زائدة ، ويأتي في الأدب من طريق حسين المعلم عن يحيى بلفظ : " وإن من حسبك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن تصوم من كل شهر ) في رواية الكشميهني : " في كل شهر " .

                                                                                                                                                                                                        ( فإذن ذلك ) هو بتنوين إذن ، وهي التي يجاب بها " إن " وكذا " لو " صريحا أو تقديرا ، و " إن " هنا مقدرة ، كأنه قال : إن صمتها فإذن ذلك صوم الدهر ، وروي بغير تنوين ، وهي للمفاجأة ، وفي توجيهها هنا تكلف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إني أجد قوة ، قال : فصم صيام نبي الله داود ) في هذه الرواية اختصار ، فإن في رواية حسين المذكورة : " فصم من كل جمعة ثلاثة أيام " ويأتي في الباب بعده : " فصم يوما وأفطر يومين " وفي رواية أبي المليح " يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام ، قلت : يا رسول الله . قال : خمسا . قلت : يا رسول الله . قال : سبعا . قلت : [ ص: 258 ] يا رسول الله . قال : تسعا ، قلت : يا رسول الله ، قال إحدى عشرة " . واستدل به عياض على تقديم الوتر على جميع الأمور ، وفيه نظر لما في رواية مسلم من طريق أبي عياض عن عبد الله بن عمرو " صم يوما - يعني : من كل عشرة أيام - ولك أجر ما بقي . قال : إني أطيق أكثر من ذلك . قال : صم ولك أجر ما بقي . قال : إني أطيق أكثر من ذلك . قال : صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي . قال : إني أطيق أكثر من ذلك . قال : صم أربعة أيام ، ولك أجر ما بقي . قال : إني أطيق أكثر من ذلك . قال : صم صوم داود " وهذا يقتضي أنه أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم بستة ثم بتسعة ، ثم باثني عشر ثم بخمسة عشر ، فالظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر فلما قال : إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يوما ، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر ، ويدل على ذلك رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن أبي داود " فلم يزل يناقصني وأناقصه " ووقع للنسائي في رواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة : " صم الاثنين والخميس من كل جمعة " وهو فرد من أفراد ما تقدم ذكره .

                                                                                                                                                                                                        وقد استشكل قوله : " صم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر ما بقي " مع قوله : " صم كل عشرة أيام يومين ولك أجر ما بقي . . . إلخ " ؛ لأنه يقتضي الزيادة في العمل والنقص من الأجر ، وبذلك ترجم له النسائي ، وأجيب بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف ، قال عياض : قال بعضهم معنى " صم يوما ولك أجر ما بقي " أي : من العشرة ، وقوله : " صم يومين ولك أجر ما بقي " أي : من العشرين ، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر ، وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل وقلة الأجر ، وتعقبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كل ذلك ؛ لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر فلما منعه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إبقاء عليه لما ذكر في أجر نيته على حاله سواء صام منه قليلا أو كثيرا كما تأوله في حديث : " نية المؤمن خير من عمله " أي : إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        والحديث المذكور ضعيف ، وهو في " مسند الشهاب " والتأويل المذكور لا بأس به ، ويحتمل أيضا إجراء الحديث على ظاهره ، والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم فينقص الأجر باعتبار ذلك ، على أن قوله في نفس الخبر : " صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي " يرد الحمل الأول ، فإنه يلزم منه - على سياق التأويل المذكور - أن يكون التقدير : " ولك أجر أربعين " ، وقد قيده في نفس الحديث بالشهر ، والشهر لا يكون أربعين ، وكذلك قوله في رواية أخرى للنسائي من طريق ابن أبي ربيعة عن عبد الله بن عمرو بلفظ : " صم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر تلك التسعة " ثم قال فيه : " من كل تسعة أيام يوما ، ولك أجر تلك الثمانية " ثم قال : " من كل ثمانية أيام يوما ولك أجر السبعة " قال : فلم يزل حتى قال : صم يوما وأفطر يوما " وله من طريق شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن جده بلفظ : " صم يوما ولك أجر عشرة . قلت : زدني ، قال : صم يومين ولك أجر تسعة ، قلت : زدني . قال : صم ثلاثة ، ولك أجر ثمانية " فهذا يدفع في صدر ذلك التأويل الأول ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا تزد عليه ) أي : على صوم داود ، زاد أحمد وغيره من رواية مجاهد " قلت : قد قبلت " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان عبد الله بن عمرو يقول بعد ما كبر : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال النووي : معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 259 ] وسلم - فشق عليه فعله لعجزه ، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له ، فتمنى أن لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف . قلت : ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه ، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية حصين المذكورة : " وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك ، يصل بعضها إلى بعض ، ثم يفطر بعدد تلك الأيام فيقوى بذلك ، وكان يقول : لأن أكون قبلت الرخصة أحب إلي مما عدل به ، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية