الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        2927 حدثنا إسحاق بن محمد الفروي حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان وكان محمد بن جبير ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس فسألته عن ذلك الحديث فقال مالك بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال أجب أمير المؤمنين فانطلقت معه حتى أدخل على عمر فإذا هو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش متكئ على وسادة من أدم فسلمت عليه ثم جلست فقال يا مال إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه فاقسمه بينهم فقلت يا أمير المؤمنين لو أمرت به غيري قال اقبضه أيها المرء فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفا فقال هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون قال نعم فأذن لهم فدخلوا فسلموا وجلسوا ثم جلس يرفا يسيرا ثم قال هل لك في علي وعباس قال نعم فأذن لهما فدخلا فسلما فجلسا فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير فقال الرهط عثمان وأصحابه يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال عمر تيدكم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قال الرهط قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال أنشدكما الله أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك قالا قد قال ذلك قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ثم قرأ وما أفاء الله على رسوله منهم إلى قوله قدير فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حياته أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك قالوا نعم ثم قال لعلي وعباس أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك قال عمر ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يعلم إنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا ولي أبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل فيها أبو بكر والله يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا يريد عليا يريد نصيب امرأته من أبيها فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها أبو بكر وبما عملت فيها منذ وليتها فقلتما ادفعها إلينا فبذلك دفعتها إليكما فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك قال الرهط نعم ثم أقبل على علي وعباس فقال أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك قالا نعم قال فتلتمسان مني قضاء غير ذلك فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكماها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثالث حديث عمر مع العباس وعلي ، وقع قبله في رواية أبي ذر وحده قصة فدك ، وكأنها ترجمة لحديث من أحاديث الباب ، وقد بينت أمر فدك في الذي قبله

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا إسحاق بن محمد الفروي ) هو شيخ البخاري الذي تقدم قريبا في " باب قتال اليهود " وقد حدث عنه بواسطة كما تقدم في الصلح ، وفي رواية ابن شبويه عن الفربري " حدثنا محمد بن إسحاق الفروي " وهو مقلوب ، وحكى عياض عن رواية القابسي مثله قال : وهو وهم . قلت : وهذا الحديث مما رواه مالك خارج الموطإ . وفي هذا الإسناد لطيفة من علوم الحديث مما لم يذكره ابن الصلاح وهي تشابه الطرفين ، مثاله ما وقع هنا : ابن شهاب عن مالك وعنه مالك ، الأعلى ابن أوس والأدنى ابن أنس

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان محمد بن جبير ) أي : ابن مطعم ( قد ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك ) أي : الآتي ذكره

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فانطلقت حتى أدخل ) كذا فيه بصيغة المضارعة في موضع الماضي في الموضعين ، وهي مبالغة لإرادة استحضار صورة الحال ، ويجوز ضم " أدخل " على أن حتى عاطفة ، أي انطلقت فدخلت ، والفتح على أن حتى بمعنى إلى أن .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 236 ] قوله : ( مالك بن أوس ) بن الحدثان بفتح المهملتين والمثلثة ، وهو نصري بالنون المفتوحة والصاد المهملة الساكنة ، وأبوه صحابي ، وأما هو فقد ذكر في الصحابة ، وقال ابن أبي حاتم وغيره لا تصح له صحبة ، وحكى ابن أبي خيثمة عن مصعب ، أو غيره أنه ركب الخيل في الجاهلية قلت : فعلى هذا لعله لم يدخل المدينة إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كما وقع لقيس بن أبي حازم : دخل أبوه وصحب وتأخر هو مع إمكان ذلك ، وقد تشارك أيضا في أنه قيل في كل منهما إنه أخذ عن العشرة . وليس لمالك بن أوس هذا في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع ، وفي صنيع ابن شهاب ذلك أصل في طلب علو الإسناد لأنه لم يقتنع بالحديث عنه حتى دخل عليه ليشافهه به ، وفيه حرص ابن شهاب على طلب الحديث وتحصيله

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        ظن قوم أن الزهري تفرد برواية هذا الحديث ، فقال أبو علي الكرابيسي : أنكره قوم وقالوا هذا من مستنكر ما رواه ابن شهاب ، قال : فإن كانوا علموا أنه ليس بفرد فهيهات ، وإن لم يعلموا فهو جهل ، فقد رواه عن مالك بن أوس عكرمة بن خالد ، وأيوب بن خالد ، ومحمد بن عمرو بن عطاء وغيرهم

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حين متع النهار ) بفتح الميم والمثناة الخفيفة بعدها مهملة أي : علا وامتد ، وقيل هو ما قبل الزوال ووقع في رواية مسلم من طريق جويرية عن مالك " حين تعالى النهار ، وفي رواية يونس عن ابن شهاب عند عمر بن شبة " بعدما ارتفع النهار "

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا رسول عمر ) لم أقف على اسمه ، ويحتمل أن يكون هو يرفأ الحاجب الآتي ذكره

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( على رمال سرير ) بكسر الراء وقد تضم ، وهو ما ينسج من سعف النخل . وأغرب الداودي فقال : هو السرير الذي يعمل من الجريد ، وفي رواية جويرية " فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله ، أي ليس تحته فراش ، والإفضاء إلى الشيء لا يكون بحائل ، وفيه إشارة إلى أن العادة أن يكون على السرير فراش

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال يا مال ) كذا هو بالترخيم أي : مالك ، ويجوز في اللام الكسر على الأصل ، والضم على أنه صار اسما مستقلا فيعرب إعراب المنادى المفرد

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنه قدم علينا من قومك ) أي : من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن . وفي رواية جويرية عند مسلم " دف أهل أبيات " أي : ورد جماعة بأهليهم شيئا بعد شيء يسيرون قليلا قليلا ، والدفيف السير اللين ، وكأنهم كانوا قد أصابهم جدب في بلادهم فانتجعوا المدينة

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( برضخ ) بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها خاء معجمة أي : عطية غير كثيرة ولا مقدرة ) وقوله : ( لو أمرت به غيري ) قاله تحرجا من قبول الأمانة ، ولم يبين ما جرى له فيه اكتفاء بقرينة الحال ، والظاهر أنه قبضه لعزم عمر عليه ثاني مرة

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أتاه حاجبه يرفا ) بفتح التحتانية وسكون الراء بعدها فاء مشبعة بغير همز وقد تهمز وهي روايتنا من طريق أبي ذر ، ويرفا هذا كان من موالي عمر أدرك الجاهلية ولا تعرف له صحبة ، وقد حج مع عمر في خلافة أبي بكر ، وله ذكر في حديث ابن عمر ، قال " قال عمر لمولى له يقال له يرفا إذا جاء طعام يزيد بن [ ص: 237 ] أبي سفيان فأعلمني " فذكر قصة . وروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن يرفا قال " قال لي عمر : إني أنزلت نفسي من مال المسلمين منزلة مال اليتيم " وهذا يشعر بأنه عاش إلى خلافة معاوية

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هل لك في عثمان ) أي : ابن عفان ( وعبد الرحمن ) ، ولم أر في شيء من طرفه زيادة على الأربعة المذكورين إلا في رواية للنسائي ، وعمر بن شبة من طريق عمرو بن دينار عن ابن شهاب وزاد فيها " وطلحة بن عبيد الله " وكذا في رواية الإمامي عن ابن شهاب عند عمر بن شبة أيضا ، وكذا أخرجه أبو داود من طريق أبي البختري عن رجل لم يسمه قال : دخل العباس وعلي " فذكر القصة بطولها وفيها ذكر طلحة لكن لم يذكر عثمان

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأذن لهم فدخلوا ) في رواية شعيب في المغازي " فأدخلهم " قوله : ( ثم قال : هل لك في علي وعباس ) زاد شعيب يستأذنان

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ) زاد شعيب ويونس " فاستب علي وعباس " وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض " اقض بيني وبين هذا الظالم ; استبا " وفي رواية جويرية " وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن " ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم قوله في رواية عقيل " استبا " واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال : لعل بعض الرواة وهم فيها ، وإن كانت محفوظة ، فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي لأنه كان عنده بمنزلة الولد ، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه ، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد ، قال : ولا بد من هذا التأويل لوقوع ذلك بمحضر الخليفة ومن ذكر معه ، ولم يصدر منهم إنكار لذلك مع ما علم من تشددهم في إنكار المنكر

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من مال بني النضير ) يأتي القول فيه قريبا

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال الرهط ) في رواية مسلم " فقال القوم " وزاد " فقال مالك بن أوس : يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك " قلت : ورأيت في رواية معمر عن الزهري في مسند ابن أبي عمر " فقال الزبير بن العوام : اقض بينهما ، فأفادت تعيين من باشر سؤال عمر في ذلك

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تئيدكم ) كذا في رواية أبي ذر بفتح المثناة وكسر التحتانية مهموز ، وفتح الدال ، قال ابن التين أصلها تيدكم ، والتؤدة : الرفق ووقع في رواية الأصيلي بكسر أوله وضم الدال وهو اسم فعل كرويدا أي اصبروا وأمهلوا وعلى رسلكم . وقيل إنه مصدر تاد يتيد ، كما يقال سيروا سيركم ، ورد بأنه لم يسمع في اللغة . ويؤيد الأول ما وقع في رواية عقيل وشعيب " أتيدوا " أي : تمهلوا ، وكذا عند مسلم وأبي داود وللإسماعيلي من طريق بشر بن عمر عن مالك " فقال عمر ايتد " بلفظ الأمر للمفرد

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أنشدكما أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ) كذا فيه ، وفي رواية مسلم " قالا نعم " ومعنى أنشدكما أسألكما رافعا نشدي أي : صوتي

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء ) في رواية مسلم " بخاصة لم يخصص [ ص: 238 ] بها غيره " وفي رواية عمرو بن دينار عن ابن شهاب في التفسير " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله ، فكانت له خاصة ، وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله " وفي رواية سفيان عن معمر عن الزهري الآتية في النفقات " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم " أي : ثمر النخل وفي رواية أبي داود من طريق أسامة بن زيد عن ابن شهاب " كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك . فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها بين المسلمين ثم قسم جزءا لنفقة أهله ، وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين " ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يقسم في فقراء المهاجرين وفي مشترى السلاح والكراع ، وذكر مفسر‌ لرواية معمر عند مسلم ، ويجعل ما بقي منه مجعل مال الله . وزاد أبو داود في رواية أبي البختري المذكورة " وكان ينفق على أهله ويتصدق بفضله " وهذا لا يعارض حديث عائشة " أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة على شعير " لأنه يجمع بينهما بأنه كان يدخر لأهله قوت سنتهم ، ثم في طول السنة يحتاج لمن يطرقه إلى إخراج شيء منه فيخرجه ، فيحتاج إلى أن يعوض من يأخذ منها عوضه ، فلذلك استدان

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما اجتازها ) كذا للأكثر بحاء مهملة وزاي معجمة ، وفي رواية الكشميهني بخاء معجمة وراء مهملة ، هذا ظاهر في أن ذلك كان مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه واسى به أقرباءه وغيرهم بحسب حاجتهم ، ووقع في رواية عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس عند النسائي ما يؤيد ذلك

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما الله هل تعلمان ذلك ؟ ) زاد في رواية عقيل " قالا نعم " قوله : ( ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضها أبو بكر ، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية عقيل " وأنتما حينئذ - وأقبل على علي وعباس - تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا " وفي رواية شعيب " كما تقولان " وفي رواية مسلم من الزيادة " فجئتما ، تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ما تركنا صدقة فرأيتما كاذبا آثما غادرا خائنا " وكأن الزهري كان يحدث به تارة فيصرح ، وتارة فيكني ، وكذلك مالك .

                                                                                                                                                                                                        وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عند الإسماعيلي وغيره . وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي . وهذه الزيادة من رواية عمر عن أبي بكر حذفت من رواية إسحاق الفروي شيخ البخاري ، وقد ثبت أيضا في رواية بشر بن عمر عنه عند أصحاب السنن والإسماعيلي وعمرو بن مرزوق وسعيد بن داود كلاهما عند الدارقطني عن مالك على ما قال جويرية عن مالك ، واجتماع هؤلاء عن مالك يدل على أنهم حفظوه ، وهذا القدر المحذوف من رواية إسحاق ثبت من روايته في موضع آخر من الحديث ، لكن جعل القصة فيه لعمر حيث قال " جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك " وفيه " فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث فاشتمل هذا الفصل على مخالفة إسحاق لبقية الرواة عن مالك في كونهم جعلوا القصة عند أبي بكر وجعلوا الحديث المرفوع من حديث أبي بكر من رواية عمر عنه " وإسحاق الفروي جعل القصة عند عمر وجعل الحديث المرفوع من روايته عن النبي صلى الله [ ص: 239 ] عليه وسلم بغير واسطة أبي بكر . وقد وقع في رواية شعيب عن ابن شهاب نظير ما وقع في رواية إسحاق الفروي سواء ، وكذلك وقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند عمر بن شبة ، وأما رواية عقيل الآتية في الفرائض فاقتصر فيها على أن القصة وقعت عند عمر بغير ذكر الحديث المرفوع أصلا ، وهذا يشعر بأن لسياق إسحاق الفروي أصلا ، فلعل القصتين محفوظتان ، واقتصر بعض الرواة على ما لم يذكره الآخر ، ولم يتعرض أحد من الشراح لبيان ذلك ، وفي ذلك إشكال شديد وهو أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم قال لا نورث فإن كانا سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر ؟ وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر والذي يظهر - والله أعلم - حمل الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة ، وأن كلا من علي وفاطمة والعباس اعتقد أن عموم قوله لا نورث مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض ، ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        وأما مخاصمة علي وعباس بعد ذلك ثانيا عند عمر فقال إسماعيل القاضي فيما رواه الدارقطني من طريقه : لم يكن في الميراث ، إنما تنازعا في ولاية الصدقة ، وفي صرفها كيف تصرف ؟ كذا قال ، لكن في رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث ، ولفظه في آخره " ثم جئتماني الآن تختصمان : يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي ، ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي ، والله لا أقضي بينكما إلا بذلك " أي : إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية . وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس نحوه .

                                                                                                                                                                                                        وفي السنن لأبي داود وغيره " أرادا أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه ، فامتنع عمر من ذلك وأراد أن لا يقع عليها اسم قسم ولذلك أقسم على ذلك " وعلى هذا اقتصر أكثر الشراح واستحسنوه ، وفيه من النظر ما تقدم . وأعجب من ذلك جزم ابن الجوزي ثم الشيخ محيي الدين بأن عليا وعباسا لم يطلبا من عمر إلا ذلك ، مع أن السياق صريح في أنهما جاءاه مرتين في طلب شيء واحد ، لكن العذر لابن الجوزي والنووي أنهما شرحا اللفظ الوارد في مسلم دون اللفظ الوارد في البخاري والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول عمر " جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، فإنما عبر بذلك لبيان قسمة الميراث كيف يقسم أن لو كان هناك ميراث ، لا أنه أراد الغض منهما بهذا الكلام ، وزاد الإمامي عن ابن شهاب عند عمر بن شبة في آخره " فأصلحا أمركما وإلا لم يرجع والله إليكما فقاما وتركا الخصومة وأمضيت صدقة " وزاد شعيب في آخره " قال ابن شهاب فحدثت به عروة فقال : صدق مالك بن أوس ، أنا سمعت عائشة تقول " فذكر حديثا . قال " وكانت هذه الصدقة بيد علي منعها عباسا فغلبه عليها ، ثم كانت بيد الحسن ثم بيد الحسين ثم بيد علي بن الحسين ، والحسن بن الحسن ثم بيد زيد بن الحسن ، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا " وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مثله ، وزاد في آخره : قال معمر ثم كانت بيد عبد الله بن حسن حتى ولي هؤلاء - يعني بني العباس - فقبضوها . وزاد إسماعيل القاضي أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان ، قال عمر بن شبة : سمعت أبا غسان هو محمد بن يحيى المدني يقول : إن الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده يولي عليها من قبله من يقبضها ، ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة . قلت : كان ذلك على [ ص: 240 ] رأس المائتين ، ثم تغيرت الأمور والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                        واختلف العلماء في مصرف الفيء فقال مالك : الفيء والخمس سواء يجعلان في بيت المال ويعطي الإمام أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده . وفرق الجمهور بين خمس الغنيمة وبين الفيء فقال : الخمس موضوع فيما عينه الله فيه من الأصناف المسمين في آية الخمس من سورة الأنفال لا يتعدى به إلى غيرهم ، وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة ، وانفرد الشافعي كما قال ابن المنذر وغيره بأن الفيء يخمس ، وأن أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وله خمس الخمس كما في الغنيمة ، وأربعة أخماس الخمس لمستحق نظيرها من الغنيمة ، وقال الجمهور : مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا بقول عمر " فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة " وتأول الشافعي قول عمر المذكور بأنه يريد الأخماس الأربعة . قال ابن بطال : مناسبة ذكر حديث عائشة في قصة فاطمة في " باب فرض الخمس " أن الذي سألت فاطمة أن تأخذه من جملته خيبر ، والمراد به سهمه صلى الله عليه وسلم منها وهو الخمس ، وسيأتي في المغازي بلفظ : مما أفاء الله عليه بالمدينة ، وفدك ، وما بقي من خمس خيبر " وفي حديث عمر أنه يجب أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم ; لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم ، وأن للإمام أن ينادي الرجل الشريف الكبير باسمه وبالترخيم حيث لم يرد بذلك تنقيصه ، وفيه استعفاء المرء من الولاية وسؤاله الإمام ذلك بالرفق ، وفيه اتخاذ الحاجب ، والجلوس بين يدي الإمام ، والشفاعة عنده في إنفاذ حكم وتبيين الحاكم وجه حكمه ، وفيه إقامة الإمام من ينظر على الوقف نيابة عنه ، والتشريك بين الاثنين في ذلك . ومنه يؤخذ جواز أكثر منهما بحسب المصلحة ، وفيه جواز الادخار خلافا لقول من أنكره من مشددي المتزهدين ، وأن ذلك لا ينافي التوكل ، وفيه جواز اتخاذ العقار ، واستغلال منفعته ، ويؤخذ منه جواز اتخاذ غير ذلك من الأموال التي يحصل بها النماء ، والمنفعة من زراعة وتجارة وغير ذلك . وفيه أن الإمام إذا قام عنده الدليل صار إليه وقضى بمقتضاه ولم يحتج إلى أخذه من غيره ، ويؤخذ منه جواز حكم الحاكم بعلمه ، وأن الأتباع إذا رأوا من الكبير انقباضا لم يفاتحوه حتى يفاتحهم بالكلام ، واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يملك شيئا من الفيء ولا خمس الغنيمة إلا قدر حاجته وحاجة من يمونه ، وما زاد على ذلك كان له فيه التصرف بالقسم ، والعطية .

                                                                                                                                                                                                        وقال آخرون لم يجعل الله لنبيه ملك رقبة ما غنمه ، وإنما ملكه منافعه ، وجعل له منه قدر حاجته ، وكذلك القائم بالأمر بعده . وقال ابن الباقلاني في الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث : احتجوا بعموم قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم قال : أما من أنكر العموم فلا استغراق عنده لكل من مات أنه يورث ، وأما من أثبته فلا يسلم دخول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولو سلم دخوله لوجب تخصيصه لصحة الخبر ، وخبر الآحاد يخصص وإن كان لا ينسخ ، فكيف بالخبر إذا جاء مثل مجيء هذا الخبر وهو " لا نورث "




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية