الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الصلاة على الحصير وصلى جابر بن عبد الله وأبو سعيد في السفينة قائما وقال الحسن قائما ما لم تشق على أصحابك تدور معها وإلا فقاعدا

                                                                                                                                                                                                        373 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال قوموا فلأصل لكم قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف [ ص: 583 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 583 ] قوله : ( باب الصلاة على الحصير ) قال ابن بطال : إن كان ما يصلى عليه كبيرا قدر طول الرجل فأكثر فإنه يقال له حصير ، ولا يقال له خمرة . وكل ذلك يصنع من سعف النخل وما أشبهه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وصلى جابر . . . إلخ ) وصله ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي عتبة مولى أنس قال : سافرت مع أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأناس قد سماهم ، قال : وكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائما ونصلي خلفه قياما ، ولو شئنا لأرفينا أي لأرسينا . يقال أرسى السفينة بالسين المهملة وأرفى بالفاء إذا وقف بها على الشط .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن : تصلي قائما ما لم تشق على أصحابك تدور معها ) أي مع السفينة " ( وإلا فقاعدا ) أي وإن شق على أصحابك فصل قاعدا ، وقد روينا أثر الحسن في نسخة قتيبة من رواية النسائي عنه عن أبي عوانة عن عاصم الأحول قال : سألت الحسن وابن سيرين وعامرا - يعني الشعبي - عن الصلاة في السفينة فكلهم يقول : إن قدر على الخروج فليخرج . غير الحسن فإنه قال : إن لم يؤذ أصحابه ، أي فليصل . وروى ابن أبي شيبة عن عاصم عن الثلاثة المذكورين أنهم قالوا : صل في السفينة قائما . وقال الحسن : لا تشق على أصحابك . وفي تاريخ البخاري من طريق هشام قال : سمعت الحسن يقول : در في السفينة كما تدور إذا صليت . قال ابن المنير : وجه إدخال الصلاة في السفينة في باب الصلاة على الحصير أنهما اشتركا في أن الصلاة عليهما صلاة على غير الأرض ، لئلا يتخيل متخيل أن مباشرة الأرض شرط ، لقوله في الحديث المشهور ، يعني الذي أخرجه أبو داود وغيره " ترب وجهك " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقد تقدم أثر عمر بن عبد العزيز في ذلك ، وأشار البخاري إلى خلاف أبي حنيفة في تجويزه الصلاة في السفينة قاعدا مع القدرة على القيام ، وفي هذا الأثر جواز ركوب البحر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن إسحاق بن أبي طلحة ) كذا للكشميهني والحموي ، وللباقين : إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أنس بن مالك أن جدته مليكة ) أي بضم الميم تصغير ملكة ، والضمير في جدته يعود على إسحاق ، جزم به ابن عبد البر وعبد الحق وعياض ، وصححه النووي . وجزم ابن سعد وابن منده وابن الحصار بأنها جدة أنس والدة أمه أم سليم ، وهو مقتضى كلام إمام الحرمين في النهاية ومن تبعه وكلام عبد الغني في العمدة ، وهو ظاهر السياق ، ويؤيده ما رويناه في فوائد العراقيين لأبي الشيخ من طريق القاسم بن يحيى المقدمي عن عبيد الله بن عمر عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال " أرسلتني جدتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمها مليكة فجاءنا فحضرت الصلاة " الحديث . وقال ابن سعد في الطبقات : أم سليم بنت ملحان ، فساق [ ص: 584 ] نسبها إلى عدي بن النجار وقال : وهي الغميصاء ويقال الرميساء ، ويقال اسمها سهلة ويقال أنيفة أي بالنون والفاء المصغرة ويقال رميثة ، وأمها مليكة بنت مالك بن عدي ، فساق نسبها إلى مالك بن النجار ثم قال : تزوجها أي أم سليم مالك بن النضر فولدت له أنس بن مالك ، ثم خلف عليها أبو طلحة فولدت له عبد الله وأبا عمير . قلت : وعبد الله هو والد إسحاق ، روى هذا الحديث عن عمه أخي أبيه لأمه أنس بن مالك ، ومقتضى كلام من أعاد الضمير في جدته إلى إسحاق أن يكون اسم أم سليم مليكة ، ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال " صففت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمي أم سليم خلفنا " هكذا أخرجه المصنف كما سيأتي في أبواب الصفوف ، والقصة واحدة طولها مالك واختصرها سفيان ، ويحتمل تعددها فلا تخالف ما تقدم ، وكون مليكة جدة أنس لا ينفي كونها جدة إسحاق لما بيناه ، لكن الرواية التي سأذكرها عن " غرائب مالك " ظاهرة في أن مليكة اسم أم سليم نفسها ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لطعام ) أي لأجل طعام ، وهو مشعر بأن مجيئه كان لذلك لا ليصلي بهم ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم كما في قصة عتبان بن مالك الآتية ، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام ، وهنا بالطعام قبل الصلاة ، فبدأ في كل منهما بأصل ما دعي لأجله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم قال قوموا ) استدل به على ترك الوضوء مما مست النار لكونه صلى بعد الطعام ، وفيه نظر ، لما رواه الدارقطني في " غرائب مالك " عن البغوي عن عبد الله بن عون عن مالك ولفظه " صنعت مليكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما فأكل منه وأنا معه ، ثم دعا بوضوء فتوضأ " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلأصلي لكم ) كذا في روايتنا بكسر اللام وفتح الياء ، وفي رواية الأصيلي بحذف الياء قال ابن مالك : روي بحذف الياء وثبوتها مفتوحة وساكنة ، ووجهه أن اللام عند ثبوت الياء مفتوحة لام كي والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف والتقدير قوموا فقيامكم لأصلي لكم ، ويجوز على مذهب الأخفش أن تكون الفاء زائدة واللام متعلقة بقوموا ، وعند سكون الياء يحتمل أن تكون اللام أيضا لام كي وسكنت الياء تخفيفا أو لام الأمر وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح كقراءة قنبل " إنه من يتقي ويصبر " ، وعند حذف الياء اللام لام الأمر ، وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيح قليل في الاستعمال ومنه قوله تعالى ولنحمل خطاياكم قال : ويجوز فتح اللام . ثم ذكر توجيهه ، وفيه لغيره بحث اختصرته ; لأن الرواية لم ترد به ، وقيل : إن في رواية الكشميهني " فأصل " بحذف اللام ، وليس هو فيما وقفت عليه من النسخ الصحيحة ، وحكى ابن قرقول عن بعض الروايات " فلنصل " بالنون وكسر اللام والجزم ، واللام على هذا لام الأمر وكسرها لغة معروفة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لكم ) أي لأجلكم قال السهيلي : الأمر هنا بمعنى الخبر ، وهو كقوله تعالى فليمدد له الرحمن مدا ويحتمل أن يكون أمرا لهم بالائتمام لكنه أضافه إلى نفسه لارتباط فعلهم بفعله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من طول ما لبس ) فيه أن الافتراش يسمى لبسا ، وقد استدل به على منع افتراش الحرير لعموم النهي عن لبس الحرير ، ولا يرد على ذلك أن من حلف لا يلبس حريرا فإنه لا يحنث بالافتراش ; لأن الأيمان مبناها على العرف .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 585 ] قوله : ( فنضحته ) يحتمل أن يكون النضح لتليين الحصير أو لتنظيفه أو لتطهيره ، ولا يصح الجزم بالأخير ، بل المتبادر غيره ; لأن الأصل الطهارة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وصففت أنا واليتيم ) كذا للأكثر ، وللمستملي والحموي " فصففت واليتيم " بغير تأكيد والأول أفصح ، ويجوز في " اليتيم " الرفع والنصب ، قال صاحب العمدة : اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة ، قال ابن الحذاء : كذا سماه عبد الملك بن حبيب ولم يذكره غيره ، وأظنه سمعه من حسين بن عبد الله أو من غيره من أهل المدينة . قال : وضميرة هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلف في اسم أبي ضميرة فقيل روح ، وقيل غير ذلك . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        ووهم بعض الشراح فقال : اسم اليتيم ضميرة وقيل روح ، فكأنه انتقل ذهنه من الخلاف في اسم أبيه إليه ، وسيأتي في " باب المرأة وحدها تكون صفا " ذكر من قال إن اسمه سليم وبيان وهمه في ذلك إن شاء الله تعالى . وجزم البخاري بأن اسم أبي ضميرة سعد الحميري ويقال سعيد ، ونسبه ابن حبان ليثيا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والعجوز ) هي مليكة المذكورة أولا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم انصرف ) أي إلى بيته أو من الصلاة . وفي هذا الحديث من الفوائد إجابة الدعوة ولو لم تكن عرسا ولو كان الداعي امرأة لكن حيث تؤمن الفتنة ، والأكل من طعام الدعوة ، وصلاة النافلة جماعة في البيوت ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد تعليمهم أفعال الصلاة بالمشاهدة لأجل المرأة فإنها قد يخفى عليها بعض التفاصيل لبعد موقفها . وفيه تنظيف مكان المصلى ، وقيام الصبي مع الرجل صفا ، وتأخير النساء عن صفوف الرجال ، وقيام المرأة صفا وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها . واستدل به على جواز صلاة المنفرد خلف الصف وحده ، ولا حجة فيه لذلك . وفيه الاقتصار في نافلة النهار على ركعتين خلافا لمن اشترط أربعا ، وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى . وفيه صحة صلاة الصبي المميز ووضوئه ، وأن محل الفضل الوارد في صلاة النافلة منفردا حيث لا يكون هناك مصلحة كالتعليم ، بل يمكن أن يقال هو إذ ذاك أفضل ولا سيما في حقه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيهان ) : الأول : أورد مالك هذا الحديث في ترجمة صلاة الضحى ، وتعقب بما رواه أنس بن سيرين عن أنس بن مالك أنه لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إلا مرة واحدة في دار الأنصاري الضخم الذي دعاه ليصلي في بيته ، أخرجه المصنف كما سيأتي . وأجاب صاحب " القبس " بأن مالكا نظر إلى كون الوقت الذي وقعت فيه تلك الصلاة هو وقت صلاة الضحى فحمله عليه ، وأن أنسا لم يطلع على أنه - صلى الله عليه وسلم - نوى بتلك الصلاة صلاة الضحى .

                                                                                                                                                                                                        الثاني : النكتة في ترجمة الباب الإشارة إلى ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق شريح بن هانئ أنه سأل عائشة : أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الحصير والله يقول وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا فقالت لم يكن يصلي على الحصير ، فكأنه لم يثبت عند المصنف أو رآه شاذا مردودا لمعارضته ما هو أقوى منه كحديث الباب ، بل سيأتي عنده من طريق أبي سلمة عن عائشة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصير يبسطه ويصلي عليه " وفي مسلم من حديث أبي سعيد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حصير .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية