الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب منه آيات محكمات وقال مجاهد الحلال والحرام وأخر متشابهات يصدق بعضه بعضا كقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين وكقوله جل ذكره ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون وكقوله والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم زيغ شك ابتغاء الفتنة المشتبهات والراسخون في العلم يعلمون يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب

                                                                                                                                                                                                        4273 حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سورة آل عمران - بسم الله الرحمن الرحيم ) كذا لأبي ذر ولم أر البسملة لغيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( صر : برد ) هو تفسير أبي عبيدة ، قال في قوله تعالى كمثل ريح فيها صر : الصر شدة البرد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( شفا حفرة مثل شفا الركية ) بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية ( وهو حرفها ) كذا للأكثر بفتح المهملة وسكون الراء وللنسفي بضم الجيم والراء والأول أصوب ، والجرف الذي أضيف إليه شفا في الآية الأخرى غير شفا هنا ، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى شفا حفرة شفا جرف ، وهو يقتضي التسوية بينهما في الإضافة وإلا فمدلول جرف غير مدلول حفرة ، فإن لفظ شفا يضاف إلى أعلى الشيء ومنه قوله : شفا جرف وإلى أسفل الشيء منه ( شفا حفرة ) ويطلق شفا أيضا على القليل تقول ما بقي منه شيء غير شفا أي غير قليل ، ويستعمل في القرب ومنه أشفى على كذا أي قرب منه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تبوئ : تتخذ معسكرا ) هو تفسير أبي عبيدة ، قال في قوله : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال أي تتخذ لهم مصاف ومعسكرا . وقال غيره : تبوئ تنزل ، بوأه أنزله ، وأصله من المباءة وهي المرجع . والمقاعد جمع مقعد وهو مكان القعود ، وقد تقدم شيء من ذلك في غزوة أحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ربيون : الجموع ، واحدها ربي ) هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [ ص: 56 ] قال : الربيون الجماعة الكثيرة ، واحدها ربي ، وهو بكسر الراء في الواحد والجمع ، قراءة الجمهور . وعن علي وجماعة بضم الراء وهو من تغيير النسب في القراءتين إن كانت النسبة إلى رب ، وعليها قراءة ابن عباس ربيون بفتح الراء وقيل بل هو منسوب إلى الربة أي الجماعة وهو بضم الراء وبكسرها ، فإن كان كذلك فلا تغيير والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تحسونهم : تستأصلونهم قتلا ) وقع هذا بعد قوله " واحدها ربي " وهو تفسير أبي عبيدة أيضا بلفظه وزاد : يقال حسسناهم من عند آخرهم أي استأصلناهم ، وقد تقدم بيان ذلك في غزوة أحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( غزى واحدها غاز ) هو تفسير أبي عبيدة أيضا ، قال في قوله : أو كانوا غزى لا يدخلها رفع ولا جر لأن واحدها غاز ، فخرجت مخرج قائل وقول انتهى . وقرأ الجمهور ( غزى ) بالتشديد جمع غاز وقياسه غزاة ، لكن حملوا المعتل على الصحيح كما قال أبو عبيدة ، وقرأ الحسن وغيره " غزا " بالتخفيف فقيل خفف الزاي كراهية التثقيل ، وقيل أصله غزاة وحذف الهاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سنكتب ما قالوا : سنحفظ ) هو تفسير أبي عبيدة أيضا ، لكنه ذكره بضم الياء التحتانية على البناء للمجهول وهي قراءة حمزة ، وكذلك قرأ " وقتلهم " بالرفع عطفا على الموصول لأنه منصوب المحل ، وقراءة الجمهور بالنون للمتكلم العظيم ، وقتلهم بالنصب على الموصول لأنه منصوب المحل ، وتفسير الكتابة بالحفظ تفسير باللازم ، وقد كثر ذلك في كلامهم كما مضى ويأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( نزلا : ثوابا : ويجوز ومنزل من عند الله كقولك أنزلته ) هو قول أبي عبيدة أيضا بنصه ، والنزل ما يهيأ للنزيل وهو الضيف ، ثم اتسع فيه حتى سمي به الغداء وإن لم يكن للضيف . وفي نزل قولان : أحدهما مصدر والآخر أنه جمع نازل كقول الأعشى

                                                                                                                                                                                                        أو تنزلون فإنا معشر نزل

                                                                                                                                                                                                        أي نزول ، وفي نصب نزلا في الآية أقوال : منها أنه منصوب على المصدر المؤكد لأن معنى ( لهم جنات ) ننزلهم جنات نزلا ، وعلى هذا يتخرج التأويل الأول لأن تقديره ينزلهم جنات رزقا وعطاء من عند الله . ومنها أنه حال من الضمير في " فيها " أي منزلة على أن نزلا مصدر بمعنى المفعول ، وعليه يتخرج التأويل الثاني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والخيل المسومة : المسوم الذي له سيماء بعلامة ، أو بصوفة ، أو بما كان . وقال مجاهد : الخيل المسومة المطهمة الحسان . وقال سعيد بن جبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى : المسومة الراعية ) أما التفسير الأول فقال أبو عبيدة : الخيل المسومة المعلمة بالسيماء ، وقال أيضا في قوله : من الملائكة مسومين أي معلمين . والمسموم الذي له سيماء بعلامة أو بصوفة أو بما كان . وأما قول مجاهد فرويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح ، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري . وأما قول ابن جبير فوصله أبو حذيفة أيضا بإسناد صحيح إليه . وأما قول ابن أبزى فوصله الطبري من طريقه ، وأورد مثله عن ابن عباس من طريق للعوفي عنه . وقال أبو عبيدة أيضا يجوز أن يكون معنى ( مسومة ) مرعاة ، من أسمتها فصارت سائمة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال سعيد بن جبير : وحصورا لا يأتي النساء ) وقع هذا بعد ذكر المسومة ، وصله الثوري في تفسيره عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به ، وأصل الحصر الحبس والمنع ، يقال لمن لا يأتي النساء أعم من أن يكون ذلك بطبعه كالعنين أو بمجاهدة نفسه ، وهو الممدوح والمراد في وصف السيد يحيى - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 57 ] قوله : ( وقال عكرمة : من فورهم غضبهم يوم بدر ) وصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة في قوله : ويأتوكم من فورهم هذا قال : فورهم ذلك كان يوم أحد غضبوا ليوم بدر بما لقوا ، وأخرجه عبد بن حميد من وجه آخر عن عكرمة في قولهم من فورهم هذا قال من وجوههم هذا ، وأصل الفور العجلة والسرعة ، ومنه فارت القدر ، يعبر به عن الغضب لأن الغضبان يسارع إلى البطش .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مجاهد : يخرج الحي من الميت ) النطفة تخرج ميتة ويخرج منها الحي ) وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي قال : الناس الأحياء من النطف الميتة والنطف الميتة من الناس الأحياء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الإبكار أول الفجر ، والعشي ميل الشمس إلى أن تغرب ) وقع هذا أيضا عند غير أبي ذر ، وقد تقدم شرحه في بدء الخلق

                                                                                                                                                                                                        قوله : منه آيات محكمات قال مجاهد : الحلال والحرام

                                                                                                                                                                                                        وأخر متشابهات يصدق بعضها بعضا ، كقوله : وما يضل به إلا الفاسقين وكقوله : ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون وكقوله : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم هكذا وقع فيه ، وفيه تغيير وبتحريره يستقيم الكلام . وقد أخرجه عبد بن حميد بالإسناد الذي ذكرته قريبا إلى مجاهد ، قال في قوله تعالى منه آيات محكمات قال : ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا ، هو مثل قوله : وما يضل به إلا الفاسقين إلى آخر ما ذكره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زيغ : شك فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة المشتبهات ) هو تفسير مجاهد أيضا وصله عبد بن حميد بهذا الإسناد كذلك ولفظه " وأما الذين في قلوبهم زيغ قال : شك فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة المشتبهات ، الباب الذي ضلوا منه وبه هلكوا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : والراسخون في العلم يعلمون و يقولون آمنا به الآية وصله عبد بن حميد من الطريق المذكور عن مجاهد في قوله " والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به " ومن طريق قتادة قال " قال الراسخون كما يسمعون آمنا به كل من عند ربنا ؛ المتشابه والمحكم ، فآمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه فأصابوا " وهذا [ ص: 58 ] الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية يقتضي أن تكون الواو والراسخون عاطفة على معمول الاستثناء ، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون في العلم آمنا به " فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه ، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ، وصرح بوفق ذلك حديث الباب ، ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه ، كما مدح الله المؤمنين بالغيب . وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب مثل ذلك أعني ويقول الراسخون في العلم آمنا به .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        سقط جميع هذه الآثار من أول السورة إلى هنا لأبي ذر عن السرخسي ، وثبت عند أبي ذر عن شيخه قبل قوله منه آيات محكمات " باب " بغير ترجمة ، ووقع عند أبي ذر آثار أخرى : ففي أول السورة قوله " تقاة وتقية واحد " هو تفسير أبي عبيدة أي أنهما مصدران بمعنى واحد وقد قرأ عاصم في رواية عنه ( إلا أن تتقوا منهم تقية ) .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( التستري ) بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة ) قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرا وكثيرا أيضا ما يدخل بينها وبينه واسطة ، وقد اختلف عليه في هذا الحديث فأخرجه الترمذي من طريق أبي عامر الجزار عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، ومن طريق زيد بن إبراهيم كما في الباب بزيادة القاسم ، ثم قال : روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة ولم يذكروا القاسم ، وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم انتهى . وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم وحماد بن سلمة جميعا عن أبي مليكة عن القاسم ، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم : وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذكر القاسم أيوب أخرجه ابن ماجه من طريقه ، ونافع بن عمر ، وابن جريج وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) أي قرأ ( هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال أبو البقاء : أصل المتشابه أن يكون بين اثنين ، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل منها مشابها للآخر فصح وصفها بأنها متشابهة ، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها . وحاصله أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات ، وإن كان الأصل ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ) قال الطبري قيل إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى ، وقيل في أمر مدة هذه الأمة ، والثاني أولى لأن أمر عيسى قد بينه الله لنبيه فهو معلوم لأمته ، بخلاف أمر هذه الأمة فإن علمه خفي عن العباد . وقال غيره : المحكم من القرآن ما وضح معناه ، والمتشابه نقيضه . وسمي المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه وإتقان تركيبه ، بخلاف المتشابه . وقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة ، وخروج الدجال ، والحروف المقطعة في أوائل السور . وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخرى غير هذه نحو العشرة ليس هذا موضع بسطها ، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أن الأخير هو [ ص: 59 ] الصحيح عندنا ، وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال والمختار على طريقة أهل السنة ، وعلى القول الأول جرى المتأخرون والله أعلم . وقال الطيبي : المراد بالمحكم ما اتضح معناه ، والمتشابه بخلافه ، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يقبل غيره أو لا ، الثاني النص ، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا ، والأول هو الظاهر ، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا ، والأول هو المجمل ، والثاني المئول . فالمشترك هو النص ، والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمئول هو المتشابه . ويؤيد هذا التقسيم أنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه ، فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله ، ويؤيد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال منه آيات محكمات وأخر متشابهات أراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء منهما من الحكم فقال أولا فأما الذين في قلوبهم زيغ - إلى أن قال - والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكان يمكن أن يقال : وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم ، لكنه وضع موضع ذلك الراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع التام والاجتهاد البليغ ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق ، وكفى بدعاء الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إلخ شاهدا على أن والراسخون في العلم مقابل لقوله : وأما الذين في قلوبهم زيغ وفيه إشارة على أن الوقف على قوله : ( إلا الله ) تام وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى ، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله " فاحذروهم " وقال بعضهم : العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة ، كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه ، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سر وقيل : لو لم يقبل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد ، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية ، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها استسلاما واعترافا بقصورها ، وفي ختم الآية بقوله تعالى وما يذكر إلا أولو الألباب تعريض بالزائغين ومدح للراسخين ، يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولي العقول ، ومن ثم قال الراسخون ربنا لا تزغ قلوبنا إلى آخر الآية ، فخضعوا لباريهم لاشتراك العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني وبالله التوفيق . وقال غيره . دلت الآية على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه ، ولا يعارض ذلك قوله : أحكمت آياته ولا قوله : كتابا متشابها مثاني حتى زعم بعضهم أن كله محكم ، وعكس آخرون ، لأن المراد بالإحكام في قوله : ( أحكمت ) الإتقان في النظم وأن كلها حق من عند الله ، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضا في حسن السياق والنظم أيضا ، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه . وحاصل الجواب أن المحكم ورد بإزاء معنيين ، والمتشابه ورد بإزاء معنيين ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فهم الذين سمى الله فاحذروهم ) في رواية الكشميهني فاحذرهم " بالإفراد والأولى أولى ، والمراد التحذير من الإصغار إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن ، وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الأمة ، ثم أول ما ظهر في الإسلام منالخوارج حتى جاء عن ابن عباس أنه فسر بهم الآية ، وقصة عمر في إنكاره على ضبيع لما بلغه أنه يتبع المتشابه فضربه على رأسه حتى أدماه ، أخرجها الدارمي وغيره . وقال الخطابي : المتشابه على ضربين : أحدهما ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه ، والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته ، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ، ولا يبلغون كنهه ، فيرتابون فيه فيفتنون ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية