الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء

                                                                                                                                                                                                        4608 حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال حدثني الحسن بن محمد بن علي أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا يا حاطب قال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال عمرو ونزلت فيه يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء قال لا أدري الآية في الحديث أو قول عمرو حدثنا علي قال قيل لسفيان في هذا فنزلت لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الآية قال سفيان هذا في حديث الناس حفظته من عمرو ما تركت منه حرفا وما أرى أحدا حفظه غيري

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سورة الممتحنة ) سقطت البسملة لجميعهم ، والمشهور في هذه التسمية فتح الحاء ، وقد تكسر وبه جزم السهيلي ، فعلى الأول هي صفة المرأة التي نزلت السورة بسببها ، والمشهور فيها أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وقيل سعيدة بنت الحارث ، وقيل أميمة بنت بشر ، والأول هو المعتمد كما سيأتي إيضاحه في كتاب النكاح . ومن كسر جعلها صفة للسورة كما قيل لبراءة : الفاضحة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مجاهد : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا : لا تعذبنا بأيديهم إلخ ) وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه بلفظه وزاد " ولا بعذاب من عندك " وزاد في آخره " ما أصابهم مثل هذا " وكذا أخرجه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه ، والطبري من طريق أخرى عن ورقاء عن عيسى عن ابن أبي نجيح كذلك ، فاتفقوا كلهم على أنه موقوف عن مجاهد ، وأخرج الحاكم مثل هذا من طريق آدم بن أبي إياس عن ورقاء [ ص: 502 ] فزاد فيه ابن عباس وقال : صحيح على شرط مسلم ، وما أظن زيادة ابن عباس فيه إلا وهما لاتفاق أصحاب ورقاء على عدم ذكره . وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا لا تسلطهم علينا فيفتنونا " وهذا بخلاف تفسير مجاهد ، وفيه تقوية لما قلته . وأخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا قال : لا تظهرهم علينا فيفتنونا يرون أنهم إنما ظهروا علينا بحقهم ، وهذا يشبه تأويل مجاهد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بعصم الكوافر : أمر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بفراق نسائهم كن كوافر بمكة ) وصله الفريابي من طريق مجاهد ، وأخرجه الطبري من طريقه أيضا ولفظه " أمر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار ، ولسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال : نزلت في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فتكفر فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برئ منها انتهى . والكوافر : جمع كافرة ، والعصم : جمع عصمة . وقال أبو علي الفارسي قال لي الكرخي : الكوافر في الآية يشمل الرجال والنساء ، قال : فقلت له : النحاة لا يجيزون هذا إلا في النساء جمع كافرة ، قال : أليس يقال طائفة كافرة انتهى . وتعقب بأنه لا يجوز كافرة وصفا للرجال إلا مع ذكر الموصوف فتعين الأول . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : باب لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر ، والعدو لما كان بزنة المصادر وقع على الواحد فما فوقه ، وقوله : تلقون إليهم بالمودة تفسير للموالاة المذكورة ، ويحتمل أن يكون حالا أو صفة ، وفيه شيء لأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقا ، والتقييد بالصفة أو الحال يوهم الجواز عند [ ص: 503 ] انتفائهما ، لكن علم بالقواعد المنع مطلقا فلا مفهوم لهما ، ويحتمل أن تكون الولاية تستلزم المودة ، فلا تتم الولاية بدون المودة فهي حال لازمة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الحسن بن محمد بن علي ) أي ابن أبي طالب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى تأتوا روضة خاخ ) بمعجمتين ، ومن قالها بمهملة ثم جيم فقد صحف ، وقد تقدم بيان ذلك في " باب الجاسوس " من كتاب الجهاد وفي أول غزوة الفتح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لتلقين ) كذا فيه ، والوجه حذف التحتانية ، وقيل إنما أثبتت لمشاكلة لتخرجن .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كنت امرءا من قريش ) أي : بالحلف ، لقوله بعد ذلك " ولم أكن من أنفسهم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كنت امرءا من قريش ولم أكن من أنفسهم ) ليس هذا تناقضا ، بل أراد أنه منهم بمعنى أنه حليفهم ، وقد ثبت حديث : " حليف القوم منهم " وعبر بقوله " ولم أكن من أنفسهم " لإثبات المجاز .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنه قد صدقكم ) بتخفيف الدال أي : قال الصدق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ) إنما قال ذلك عمر مع تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاطب فيما اعتذر به لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض من ينسب إلى النفاق ، وظن أن من خالف ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحق القتل ، لكنه لم يجزم بذلك فلذلك استأذن في قتله ، وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر ، وعذر حاطب ما ذكره ، فإنه صنع ذلك متأولا أن لا ضرر فيه . وعند الطبري من طريق الحارث عن علي في هذه القصة " فقال : أليس قد شهد بدرا ؟ قال : بلى ، ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فقال : إنه قد شهد بدرا وما يدريك ) أرشد أن علة ترك قتله بأنه شهد بدرا فكأنه قيل : وهل يسقط عنه شهوده بدرا هذا الذنب العظيم ؟ فأجاب بقوله " وما يدريك إلخ " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر ) هكذا في أكثر الروايات بصيغة الترجي ، وهو من الله واقع ، ووقع في حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة بصيغة الجزم ، وقد تقدم بيان ذلك واضحا في " باب فضل من شهد بدرا " من كتاب المغازي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) كذا في معظم الطرق ، وعند الطبري من طريق معمر عن الزهري عن عروة " فإني غافر لكم " وهذا يدل على أن المراد بقوله " غفرت " أي أغفر ، على طريق التعبير عن الآتي بالواقع مبالغة في تحققه . وفي " مغازي ابن عائذ " من مرسل عروة " اعملوا ما شئتم فسأغفر لكم " والمراد غفران ذنوبهم في الآخرة ، وإلا فلو وجب على أحدهم حد مثلا لم يسقط في الدنيا . وقال ابن الجوزي : ليس هذا على الاستقبال ، وإنما هو على الماضي ، تقديره اعملوا ما شئتم أي عمل كان لكم فقد غفر ، قال : لأنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر لكم ، ولو كان كذلك لكان إطلاقا في الذنوب ولا يصح ، ويبطله أن القوم خافوا من العقوبة بعد حتى كان عمر يقول : يا حذيفة ، بالله هل أنا منهم ؟ وتعقبه القرطبي بأن " اعملوا " صيغة أمر وهي موضوعة للاستقبال ، ولم تضع العرب صيغة الأمر للماضي لا بقرينة ولا بغيرها لأنهما بمعنى الإنشاء والابتداء ، وقوله " اعملوا ما شئتم " يحمل على طلب الفعل ، ولا يصح أن يكون بمعنى الماضي ، ولا يمكن أن يحمل على الإيجاب فتعين للإباحة . قال : وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف ، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة ، ولا يلزم من [ ص: 504 ] وجود الصلاحية للشيء وقوعه . وقد أظهر الله صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك ، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا ، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريق المثلى . ويعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم انتهى . ويحتمل أن يكون المراد بقوله " فقد غفرت لكم " أي : ذنوبكم تقع مغفورة ، لا أن المراد أنه لا يصدر منهم ذنب . وقد شهد مسطح بدرا ووقع في حق عائشة كما تقدم في تفسير سورة النور ، فكأن الله لكرامتهم عليه بشرهم على لسان نبيه أنهم مغفور لهم ولو وقع منهم ما وقع . وقد تقدم بعض مباحث هذه المسألة في أواخر كتاب الصيام في الكلام على ليلة القدر ، ونذكر بقية شرح هذا الحديث في كتاب الديات إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال عمرو ) هو ابن دينار ، وهو موصول بالإسناد المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ونزلت فيه يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء سقط " أولياء " لغير أبي ذر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال : لا أدري الآية في الحديث ، أو قول عمرو ) هذا الشك من سفيان بن عيينة كما سأوضحه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا علي ) هو ابن المديني ( قال : قيل لسفيان في هذا فنزلت لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الآية ؟ قال سفيان : هذا في حديث الناس ) يعني هذه الزيادة ، يريد الجزم برفع هذا القدر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حفظته من عمرو ما تركت منه حرفا ، وما أرى أحدا حفظه غيري ) وهذا يدل على أن هذه الزيادة لم يكن سفيان يجزم برفعها وقد أدرجها عنه ابن أبي عمر أخرجه الإسماعيلي من طريقه فقال في آخر الحديث " قال : وفيه نزلت هذه الآية " وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر وعمرو الناقد ، وكذا أخرجه الطبري عن عبيد بن إسماعيل والفضل بن الصباح ، والنسائي عن محمد بن منصور كلهم عن سفيان ، واستدل باستئذان عمر على قتل حاطب لمشروعية قتل الجاسوس ولو كان مسلما وهو قول مالك ومن وافقه ، ووجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على إرادة القتل لولا المانع ، وبين المانع هو كون حاطب شهد بدرا ، وهذا منتف من غير حاطب ، فلو كان الإسلام مانعا من قتله لما علل بأخص منه . وقد بين سياق علي أن هذه الزيادة مدرجة . وأخرجه مسلم أيضا عن إسحاق بن راهويه عن سفيان وبين أن تلاوة الآية من قول سفيان . ووقع عند الطبري من طريق أخرى عن علي الجزم بذلك ، لكنه من أحد رواة الحديث حبيب بن أبي ثابت الكوفي أحد التابعين ، وبه جزم إسحاق في روايته عن محمد بن جعفر عن عروة في هذه القصة ، وكذا جزم به معمر عن الزهري عن عروة ، وأخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال : " لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى مشركي قريش كتب إليهم حاطب بن أبي بلتعة يحذرهم " فذكر الحديث إلى أن قال : " فأنزل الله فيه القرآن يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الآية " قال الإسماعيلي في آخر الحديث أيضا " قال عمرو - أي ابن دينار - : وقد رأيت ابن أبي رافع وكان كاتبا لعلي " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية