الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4736 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أن يتغنى بالقرآن قال سفيان تفسيره يستغني به

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن سفيان ) هو ابن عيينة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن الزهري ) هو ابن شهاب المذكور في الطريق الأولى ، ونقل ابن أبي داود عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال : لم يقل لنا سفيان قط في هذا الحديث " حدثنا ابن شهاب " قلت : قد رواه الحميدي في [ ص: 688 ] مسنده عن سفيان قال : " سمعت الزهري " ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " ، والحميدي من أعرف الناس بحديث سفيان وأكثرهم تثبتا عنه للسماع من شيوخهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال سفيان تفسيره يستغنى به ) كذا فسره سفيان ، ويمكن أن يستأنس بما أخرجه أبو داود وابن الضريس ، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك قال : " لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال : تجار كسبة ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن " وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى بيستغني وقال : إنه جائز في كلام العرب ، وأنشد الأعشى :

                                                                                                                                                                                                        وكنت امرءا زمنا بالعراق خفيف المناخ طويل التغني

                                                                                                                                                                                                        .

                                                                                                                                                                                                        أي كثير الاستغناء وقال المغيرة بن حبناء :

                                                                                                                                                                                                        كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا

                                                                                                                                                                                                        .

                                                                                                                                                                                                        قال : فعلى هذا يكون المعنى من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا ، أي على طريقتنا . واحتج أبو عبيد أيضا بقول ابن مسعود " من قرأ سورة " آل عمران " فهو غني " ونحو ذلك . وقال ابن الجوزي : اختلفوا في معنى قوله : " يتغنى " على أربعة أقوال . أحدها : تحسين الصوت ، والثاني : الاستغناء ، والثالث : التحزن - قاله الشافعي - والرابع : التشاغل به ، تقول العرب : تغنى بالمكان : أقام به . قلت : وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في " الزاهر " قال : . المراد به التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء ، فأطلق عليه تغنيا من حيث إنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء ، وهو كقول النابغة :

                                                                                                                                                                                                        بكاء حمامة تدعو هديلا مفجعة على فنن تغني

                                                                                                                                                                                                        أطلق على صوتها غناء ؛ لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة ، وهو كقولهم " العمائم تيجان العرب ، لكونها تقوم مقام التيجان ، وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء ، قال ابن الأعرابي : كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى ، وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها ، فلما نزل القرآن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني . ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم ؛ فإنه أراد بقوله : " طويل التغني " طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء ، يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك قال حسان :

                                                                                                                                                                                                        أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل

                                                                                                                                                                                                        أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم ، فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره ، وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء وأنه يستغنى به عن غيره من الكتب ، وقيل : المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد ، وقيل : معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه ، وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر ، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر ، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية ، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك ، وفي توجيهه تكلف كأنه قال : ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته ، وأما الذي نقله عن الشافعي فلم أره صريحا عنه في تفسير الخبر . وإنما قال في مختصر المزني : وأحب أن يقرأ حدرا وتحزينا انتهى . قال أهل اللغة : حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها ، وقرأ فلان تحزينا إذا رقق صوته وصيره كصوت [ ص: 689 ] الحزين . وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه قرأ سورة فحزنها شبه الرثي ، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد قال : يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه . وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة للتغني بالاستغناء فلم يرتضه وقال : لو أراد الاستغناء لقال : لم يستغن ، وإنما أراد تحسين الصوت . قال ابن بطال : وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل ، ويؤيده رواية عبد الأعلى عن معمر عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ : " ما أذن لنبي في الترنم في القرآن " أخرجه الطبري ، وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر " ما أذن لنبي حسن الصوت " وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة ، وعند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة حسن الترنم بالقرآن قال الطبري : والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ وطرب به ، قال : ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى . وأخرج ابن ماجه والكجي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا الله أشد أذنا - أي استماعا - للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والقينة : المغنية ، وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه : تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه . كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث " وتغنوا به " والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان :

                                                                                                                                                                                                        تغن بالشعر إما أنت قائله إن الغناء بهذا الشعر مضمار



                                                                                                                                                                                                        قال : ولا نعلم في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى ولا في أشعارهم ، وبيت الأعشى لا حجة فيه لأنه أراد طول الإقامة ، ومنه قوله تعالى : كأن لم يغنوا فيها وقال : بيت المغيرة أيضا لا حجة فيه ، لأن التغاني تفاعل بين اثنين وليس هو بمعنى تغنى ، قال : وإنما يأتي " تغنى " من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل أي يظهر خلاف ما عنده ، وهذا فاسد المعنى . قلت : ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه أي تطلبه وحمل نفسه عليه ولو شق عليه كما تقدم قريبا ، ويؤيده حديث : فإن لم تبكوا فتباكوا وهو في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي عوانة . وأما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد تقدم في الجهاد في حديث الخيل : " ورجل ربطها تعففا وتغنيا " وهذا من الاستغناء بلا ريب ، والمراد به يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا . وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال : الاستغناء به لا يحتاج إلى استماع ، لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به ، وأيضا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع ، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة . ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة قال : يقولون إذا رفع صوته فقد تغنى . قلت : الذي نقل عنه أنه بمعنى يستغنى أتقن لحديثه ، وقد نقل أبو داود عنه مثله ، ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير يستغني من جهته ويرفع عن غيره ، وقال عمر بن شبة : ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة فقال : لم يصنع شيئا ، حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال : " كان داود - عليه السلام - يتغنى - يعني حين يقرأ - ويبكي ويبكي " وعن ابن عباس : أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا ، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم . وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت . وسيأتي حديث : إن أبا موسى أعطي مزمارا من مزامير داود في " باب حسن الصوت بالقراءة " . وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع ، وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله : " يجهر به " فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة ، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقيها ، [ ص: 690 ] وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول : سمعت فلانا يتغنى بكذا . أي يجهر به . وقال أبو عاصم : أخذ بيدي ابن جريج فأوقفني على أشعب فقال : غن ابن أخي ما بلغ من طمعك ؟ فذكر قصة . فقوله غن أي أخبرني جهرا صريحا . ومنه قول ذي الرمة : أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم

                                                                                                                                                                                                        أي أجهر ولا أكني ، والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة ، وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن ، مستغنيا به عن غيره من الأخبار ، طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد ، وقد نظمت ذلك في بيتين :

                                                                                                                                                                                                        تغن بالقرآن حسن به الصوت حزينا جاهرا رنم واستغن عن كتب الألى
                                                                                                                                                                                                        طالبا غنى يد والنفس ثم الزم



                                                                                                                                                                                                        وسيأتي ما يتعلق بحسن الصوت بالقرآن في ترجمة مفردة . ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم ، لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب وإجراء الدمع . وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان ، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك ، فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان ، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم ، وحكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبندنيجي والغزالي من الشافعية ، وصاحب الذخيرة من الحنفية - الكراهة ، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة ، وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز ، وهو المنصوص للشافعي ونقله الطحاوي عن الحنفية ، وقال الفوراني من الشافعية في الإبانة يجوز بل يستحب ، ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه ، فلو تغير قال النووي في " التبيان " أجمعوا على تحريمه ولفظه : أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط ، فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم ، قال : وأما القراءة بالألحان فقد نص الشافعي في موضع على كراهته وقال في موضع آخر لا بأس به ، فقال أصحابه : ليس على اختلاف قولين ، بل على اختلاف حالين ، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرم . وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم وكذا حكى ابن حمدان الحنبلي في " الرعاية " ، وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية : إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا . وأغرب الرافعي فحكى عن " أمالي السرخسي " أنه لا يضر التمطيط مطلقا ، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة ، وهذا شذوذ لا يعرج عليه . والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب ، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث ، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح . ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك ، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه ، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات ، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء ، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء ، فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية