الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                17 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وألفاظهم متقاربة قال أبو بكر حدثنا غندر عن شعبة وقال الآخران حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي جمرة قال كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر فقال إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفد أو من القوم قالوا ربيعة قال مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى قال فقالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة قال فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع قال أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال هل تدرون ما الإيمان بالله قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت قال شعبة وربما قال النقير قال شعبة وربما قال المقير وقال احفظوه وأخبروا به من ورائكم وقال أبو بكر في روايته من وراءكم وليس في روايته المقير وحدثني عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ح وحدثنا نصر بن علي الجهضمي قال أخبرني أبي قالا جميعا حدثنا قرة بن خالد عن أبي جمرة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نحو حديث شعبة وقال أنهاكم عما ينبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت وزاد ابن معاذ في حديثه عن أبيه قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( قال أبو بكر : حدثنا غندر عن شعبة وقال الآخرون ثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة ) هذا من احتياط مسلم - رضي الله عنه - فإن غندرا هو محمد بن جعفر ولكن أبو بكر ذكره بلقبه والآخران باسمه ونسبه وقال أبو بكر عنه عن شعبة . قال الآخران عنه حدثنا شعبة فحصلت مخالفة بينهما وبينه من وجهين فلهذا نبه عليه مسلم - رحمه الله تعالى - . وقد تقدم في المقدمة أن دال غندر مفتوحة على المشهور ، وأن الجوهري حكى ضمها أيضا . وتقدم بيان سبب تلقيبه بغندر .

                                                                                                                قوله : ( كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس ) كذا هو في الأصول وتقديره : بين يدي ابن عباس بينه وبين الناس فحذف لفظة بينه لدلالة الكلام عليها ، ويجوز أن يكون المراد بين ابن عباس وبين الناس كما جاء في البخاري وغيره بحذف " يدي " فتكون " يدي " عبارة عن الجملة كما قال الله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي : قدم والله أعلم .

                                                                                                                وأما معنى الترجمة فهو التعبير عن لغة بلغة ، ثم قيل : إنه كان يتكلم بالفارسية فكان يترجم لابن عباس عمن يتكلم بها ، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى : وعندي أنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس ، إما لزحام منع من سماعه فأسمعهم ، وإما لاختصار منع من فهمه فأفهمهم ، أو نحو ذلك . قال : وإطلاقه لفظ الناس يشعر بهذا . قال : وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى فقد أطلقوا على قولهم باب كذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكره بعده هذا كلام الشيخ . والظاهر أن معناه أنه يفهمهم عنه ويفهمه عنهم . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر ) أما ( الجر ) فبفتح الجيم وهو اسم جمع الواحدة جرة ويجمع أيضا على جرار وهو هذا الفخار المعروف . وفي هذا دليل على جواز استفتاء المرأة الرجال الأجانب ، وسماعها صوتهم ، وسماعهم صوتها للحاجة . وفي قوله ( إن وفد عبد القيس إلخ ) دليل على أن مذهب ابن عباس - رضي الله عنه - أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية ليس بمنسوخ بل حكمه باق وقد قدمنا بيان الخلاف فيه .

                                                                                                                [ ص: 154 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - ( مرحبا بالقوم ) منصوب على المصدر استعملته العرب وأكثرت منه تريد به البر ، وحسن اللقاء . ومعناه صادفت رحبا وسعة .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - ( غير خزايا ولا الندامى ) هكذا هو في الأصول ( الندامى ) بالألف واللام ، و ( خزايا ) بحذفهما . وروي في غير هذا الموضع بالألف واللام فيهما ، وروي بإسقاطهما فيهما ، والرواية فيه غير بنصب الراء على الحال .

                                                                                                                وأشار صاحب التحرير إلى أنه يروى أيضا بكسر الراء على الصفة للقوم . والمعروف الأول . ويدل عليه ما جاء في رواية البخاري " مرحبا بالقوم الذين جاءوا غير خزايا ولا ندامى " ، والله أعلم .

                                                                                                                أما ( الخزايا ) فجمع خزيان كحيران وحيارى وسكران وسكارى والخزيان المستحي . وقيل : الذليل المهان . وأما ( الندامى ) : فقيل : إنه جمع ندمان بمعنى نادم ، وهي لغة في نادم ، حكاها القزاز صاحب جامع اللغة ، والجوهري في صحاحه وعلى هذا هو على بابه وقيل هو جمع نادم اتباعا للخزايا وكان الأصل نادمين فأتبع لخزايا تحسينا للكلام وهذا الإتباع كثير في كلام العرب وهو من فصيحه ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ارجعن مأزورات غير مأجورات ، أتبع مأزورات لمأجورات ولو أفرد ولم يضم إليه مأجورات لقال موزورات . كذا قاله الفراء وجماعات . قالوا : ومنه قول العرب ) إنى لآتيه بالغدايا والعشايا جمعوا الغداة على غدايا إتباعا لعشايا ولو أفردت لم يجز إلا غدوات .

                                                                                                                وأما معناه فالمقصود أنه لم يكن منكم تأخر عن الإسلام ولا عناد ولا أصابكم إسار ولا سباء ولا ما أشبه ذلك مما تستحيون بسببه ، أو تذلون أو تهانون أو تندمون . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فقالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة ) الشقة بضم الشين وكسرها لغتان مشهورتان أشهرهما وأفصحهما الضم وهي التي جاء بها القرآن العزيز . قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي وقرأ عبيد بن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس . والشقة السفر البعيد . كذا قاله ابن سكيت ، وابن قتيبة ، وقطرب ، وغيرهم . قيل : سميت شقة لأنها تشق على الإنسان . وقيل : هي المسافة . وقيل : الغاية التي يخرج الإنسان إليها . فعلى القول الأول يكون قولهم بعيدة مبالغة في بعدها . والله أعلم .

                                                                                                                قولهم : ( فمرنا بأمر فصل ) هو بتنوين ( أمر ) . قال الخطابي وغيره : هو البين الواضح الذي ينفصل به المراد ولا يشكل .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأخبروا به من ورائكم وقال أبو بكر في روايته من وراءكم ) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول الأول بكسر الميم والثاني بفتحها وهما يرجعان إلى معنى واحد .

                                                                                                                [ ص: 155 ] قوله : ( وحدثنا نصر بن علي الجهضمي ) هو بفتح الجيم والضاد المعجمة وإسكان الهاء بينهما وقد تقدم بيانه في شرح المقدمة .

                                                                                                                قوله : ( قالا جميعا ) فلفظة جميعا منصوبة على الحال . ومعناه اتفقا واجتمعا على التحديث بما يذكره إما مجتمعين في وقت واحد وإما في وقتين ، ومن اعتقد أنه لا بد أن يكون ذلك في وقت واحد فقد غلط غلطا بينا .

                                                                                                                قوله : ( وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج أشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) أما الأشج فاسمه المنذر بن عائذ بالذال المعجمة العصري بفتح العين والصاد المهملتين هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله ابن عبد البر ، والأكثرون أو الكثيرون . وقال ابن الكلبي : اسمه المنذر ابن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف ، وقيل : اسمه المنذر بن عامر . وقيل : المنذر بن عبيد . وقيل : اسمه عائذ ابن المنذر . وقيل : عبد الله بن عوف .

                                                                                                                وأما الحلم فهو العقل ، وأما الأناة فهي التثبيت وترك العجلة وهي مقصورة . وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : فقربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسه إلى جانبه ، ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : تبايعون على أنفسكم وقومكم ، فقال القوم : نعم . فقال الأشج يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه . نبايعك على أنفسنا ، ونرسل من يدعوهم . فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه . قال : " صدقت ، إن فيك خصلتين " . الحديث . قال القاضي عياض : فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل ، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله ، وجودة نظره للعواقب ، قلت : ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبي يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج " إن فيك خصلتين " الحديث . قال : يا رسول الله كانا في أم حدثا ؟ قال : " بل قديم " . قال : قلت : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما .




                                                                                                                الخدمات العلمية