الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                27 حدثنا أبو بكر بن النضر بن أبي النضر قال حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا عبيد الله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير قال فنفدت أزواد القوم قال حتى هم بنحر بعض حمائلهم قال فقال عمر يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها قال ففعل قال فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره قال وقال مجاهد وذو النواة بنواه قلت وما كانوا يصنعون بالنوى قال كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء قال فدعا عليها حتى ملأ القوم أزودتهم قال فقال عند ذلك أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( حدثنا عبيد الله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ) وفي الرواية الأخرى ( عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد شك الأعمش قال : لما كان يوم غزوة تبوك الحديث ) هذان الإسنادان مما استدركه الدارقطني وعلله . فأما الأول فعلله من جهة أن أبا أسامة وغيره خالفوا عبيد الله الأشجعي فرووه عن مالك بن مغول عن طلحة عن أبي صالح مرسلا وأما الثاني فعلله لكونه اختلف فيه عن الأعمش . فقيل فيه أيضا عنه عن أبي صالح عن جابر وكان الأعمش يشك فيه . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - : هذان الاستدراكان من الدارقطني مع أكثر استدراكاته على البخاري ومسلم قدح في أسانيدهما غير مخرج لمتون الأحاديث من حيز [ ص: 180 ] الصحة . وقد ذكر في هذا الحديث أبو مسعود إبراهيم بن محمد الدمشقي الحافظ فيما أجاب الدارقطني عن استدراكاته على مسلم - رحمه الله - أن الأشجعي ثقة مجود ، فإذا جود ما قصر فيه غيره حكم له به ومع ذلك فالحديث له أصل ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواية الأعمش له مسندا ، وبرواية يزيد بن أبي عبيد وإياس بن سلمة بن الأكوع عن سلمة . قال الشيخ : رواه البخاري عن سلمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما شك الأعمش فهو غير قادح في متن الحديث فإنه شك في عين الصحابي الراوي له وذلك غير قادح لأن الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم عدول . هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو - رحمه الله - . قلت : وهذان الاستدراكان لا يستقيم واحد منهما .

                                                                                                                أما الأول : فلأنا قدمنا في الفصول السابقة أن الحديث الذي رواه بعض الثقات موصولا وبعضهم مرسلا فالصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين أن الحكم لرواية الوصل سواء كان راويها أقل عددا من رواية الإرسال ، أو مساويا لها ; لأنها زيادة ثقة . فهذا موجود هنا وهو كما قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي جود وحفظ ما قصر فيه غيره . وأما الثاني : فلأنهم قالوا : إذا قال الراوي : حدثني فلان أو فلان وهما ثقتان احتج به بلا خلاف ; لأن المقصود الرواية عن ثقة مسمى ، وقد حصل . وهذه قاعدة ذكرها الخطيب البغدادي في الكفاية ، وذكرها غيره . وهذا في غير الصحابة ففي الصحابة أولى ; فإنهم كلهم عدول . فلا غرض في تعيين الراوي منهم . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ضبط لفظ الإسناد فمغول بكسر الميم وإسكان الغين المعجمة وفتح الواو .

                                                                                                                وأما ( مصرف ) فبضم الميم وفتح الصاد المهملة وكسر الراء . هذا هو المشهور المعروف في كتب المحدثين وأصحاب المؤتلف ، وأصحاب أسماء الرجال وغيرهم . وحكى الإمام أبو عبد الله القلعي الفقيه الشافعي في كتابه ( ألفاظ المهذب ) أنه يروى بكسر الراء وفتحها . وهذا الذي حكاه من رواية الفتح غريب منكر ولا أظنه يصح وأخاف أن يكون قلد فيه بعض الفقهاء أو بعض النسخ أو نحو ذلك ، وهذا كثير يوجد مثله في كتب الفقه ، وفي الكتب المصنفة في شرح ألفاظها ، فيقع فيها تصحيفات ونقول غريبة لا تعرف . وأكثر هذه أغاليط لكون الناقلين لها لم يتحروا فيها . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( حتى هم بنحر بعض حمائلهم ) روي بالحاء وبالجيم . وقد نقل جماعة من الشراح الوجهين لكن اختلفوا في الراجح منهما - فممن نقل الوجهين صاحب التحرير والشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، وغيرهما . واختار صاحب التحرير الجيم . وجزم القاضي عياض بالحاء ولم يذكر غيرها . قال الشيخ أبو عمرو - رحمه الله - : وكلاهما صحيح فهو بالحاء جمع حمولة بفتح الحاء وهي الإبل التي تحمل . وبالجيم جمع جمالة بكسرها جمع جمل . ونظيره حجر وحجارة . والجمل هو الذكر دون الناقة وفي هذا الذي هم به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان لمراعاة المصالح وتقديم الأهم فالأهم وارتكاب أخف [ ص: 181 ] الضررين لدفع أضرهما . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فقال عمر - رضي الله عنه - : يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم ) هذا فيه بيان جواز عرض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحة لينظر الفاضل فيه ، فإن ظهرت له مصلحة فعله ويقال : بقي بكسر القاف وفتحها والكسر لغة أكثر العرب . وبها جاء القرآن الكريم والفتح لغة طي . وكذا يقولون فيما أشبهه والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فجاء ذو البر ببره ، وذو التمر بتمره . قال : وقال مجاهد : وذو النواة بنواه ) هكذا هو في أصولنا وغيرها . الأول النواة بالتاء في آخره والثاني بحذفها . وكذا نقله القاضي عياض عن الأصول كلها ثم قال : ووجهه ذو النوى بنواه كما قال ذو التمر بتمره . قال الشيخ أبو عمرو : وجدته في كتاب أبي نعيم المخرج على صحيح مسلم ذو النوى بنواه . قال : وللواقع في كتاب مسلم وجه صحيح وهو أن يجعل النواة عبارة عن جملة من النوى أفردت عن غيرها كما أطلق اسم الكلمة على القصيدة أو تكون النواة من قبيل ما يستعمل في الواحد والجمع . ثم إن القائل قال : مجاهد هو طلحة بن مصرف . قاله الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري . والله أعلم .

                                                                                                                وفي هذا الحديث جواز خلط المسافرين أزوادهم وأكلهم منها مجتمعين وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض . وقد نص أصحابنا على أن ذلك سنة والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( كانوا يمصونها ) هو بفتح الميم هذه اللغة الفصيحة المشهورة ويقال : مصصت الرمانة والتمرة وشبههما بكسر الصاد أمصها بفتح الميم . وحكى الزهري عن بعض العرب ضم الميم . وحكى أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ثعلب عن ابن الأعرابي هاتين اللغتين ( مصصت ) بكسر الصاد ( أمص ) بضم الميم ، ومصصت بفتح الصاد أمص بضم الميم مصا فيهما فأنا ماص وهي ممصوصة . وإذا أمرت منهما قلت مص الرمانة ومصها ومصها ومصها ومصها فهذه خمس لغات في الأمر فتح الميم مع الصاد ومع كسرها وضم الميم مع فتح الصاد ومع كسرها وضمها هذا كلام ثعلب . والفصيح المعروف في مصها ونحوه مما يتصل به هاء التأنيث لمؤنث أنه يتعين فتح ما يلي الهاء ولا يكسر ولا يضم .

                                                                                                                قوله : ( حتى ملأ القوم أزودتهم ) هكذا الرواية فيه في جميع الأصول وكذا نقله عن الأصول جميعها القاضي عياض وغيره . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : الأزودة جمع زاد وهي لا تملأ إنما تملأ بها أوعيتها قال ووجهه عندي أن يكون المراد حتى ملأ القوم أوعية أزودتهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . قال القاضي عياض : ويحتمل أنه سمى الأوعية أزوادا باسم ما فيها كما في نظائره . والله أعلم .

                                                                                                                وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة الظاهرة . وما أكثر نظائره [ ص: 182 ] التي يزيد مجموعها على شرط التواتر ويحصل العلم القطعي وقد جمعها العلماء وصنفوا فيها كتبا مشهورة . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية