الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                574 وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعا عن ابن علية قال زهير حدثنا إسمعيل بن إبراهيم عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول فقال يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم [ ص: 227 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 227 ] قوله : ( وخرج غضبان يجر رداءه ) يعني لكثرة اشتغاله بشأن الصلاة ، خرج يجر رداءه ولم يتمهل ليلبسه . قوله في آخر الباب في حديث إسحاق بن منصور ( سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الركعتين فقال رجل من بني سليم واقتص الحديث ) هكذا هو في بعض الأصول المعتمدة ( من الركعتين ) وهو الظاهر الموافق لباقي الروايات ، وفي بعضها ( بين الركعتين ) ، وهو صحيح أيضا ، ويكون المراد بين الركعتين الثانية والثالثة . واعلم أن حديثذي اليدين هذا فيه فوائد كثيرة وقواعد مهمة . منها جواز النسيان في الأفعال والعبادات على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وأنهم لا يقرون عليه ، وقد تقدمت هذه القاعدة في هذا الباب . ومنها : أن الواحد إذا ادعى شيئا جرى بحضرة جمع كثير لا يخف عليهم سئلوا عنه ولا يعمل بقوله من غير سؤال .

                                                                                                                ومنها : إثبات سجود السهو ، وأنه سجدتان ، وأنه يكبر لكل واحدة منهما ، وأنهما على هيئة سجود الصلاة ، لأنه أطلق السجود ، فلو خالف المعتاد لبينه ، وأنه يسلم من سجود السهو ، وأنه لا تشهد له وأن سجود السهو في الزيادة يكون بعد السلام ، وقد سبق أن الشافعي - رحمه الله تعالى - يحمله على أن تأخير سجود السهو كان نسيانا لا عمدا . ومنها : أن كلام الناسي للصلاة والذي يظن أنه ليس فيها لا يبطلها ، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف ، وهو قول ابن عباس وعبد الله بن الزبير وأخيه عروة وعطاء والحسن والشعبي وقتادة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وجميع المحدثين - رضي الله عنهم - وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - وأصحابه والثوري في أصح الروايتين : تبطل صلاته بالكلام ناسيا أو جاهلا لحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم - رضي الله عنهما - وزعموا أن حديث قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، قالوا : لأن ذا اليدين قتل يوم بدر ، ونقلوا عن الزهري أن ذا اليدين قتل يوم بدر ، وأن قضيته في الصلاة كانت قبل بدر ، قالوا : ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه وهو متأخر الإسلام عن بدر ، لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صحابي آخر .

                                                                                                                وأجاب أصحابنا وغيرهم من العلماء عن هذا بأجوبة صحيحة حسنة مشهورة ، أحسنها وأتقنها : ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد . قال : أما ادعاؤهم أن حديث أبي هريرة منسوخ بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فغير صحيح ؛ لأنه لا خلاف بين [ ص: 228 ] أهل الحديث والسير أن حديث ابن مسعود كان بمكة حين رجع من أرض الحبشة قبل الهجرة ، وأن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدينة ، وإنما أسلم أبو هريرة عام خيبر سنة سبع من الهجرة بلا خلاف . وأما حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - فليس فيه بيان أنه قبل حديث أبي هريرة أو بعده ، والنظر يشهد أنه قبل حديث أبي هريرة .

                                                                                                                وأما قوله : إن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يشهد ذلك فليس بصحيح ، بل شهوده لها محفوظ من روايات الثقات الحفاظ ، ثم ذكر بإسناده الرواية الثانية في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما أن أبا هريرة قال : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي فسلم من اثنين . وذكر الحديث ، وقصة ذي اليدين ، وفي روايات : ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . وفي رواية مسلم وغيره ( بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . ) وذكر الحديث ، وفي رواية في مسلم : ( بينا نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . ) قال : وقد روى قصة ذي اليدين عبد الله بن عمر ، ومعاوية بن حديج بضم الحاء المهملة ، وعمران بن حصين ، وابن مسعدة رجل من الصحابة - رضي الله عنهم - وكلهم لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صحبه إلا بالمدينة متأخرا ، ثم ذكر أحاديثهم بطرقها .

                                                                                                                قال : وابن مسعدة هذا رجل من الصحابة يقال له : صاحب الجيوش اسمه : عبد الله ، معروف في الصحابة له رواية . قال : وأما قولهم : إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغلط ، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ، ولسنا ندافعهم أن ذا الشمالين قتل يوم بدر ؛ لأن ابن إسحاق وغيره من أهل السير ذكره فيمن قتل يوم بدر . قال ابن إسحاق : ذو الشمالين هو عمير بن عمرو بن عيشان من خزاعة حليف لبني زهرة قال أبو عمر : فذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل حضور أبي هريرة ومن ذكرنا قصة ذي اليدين ، وأن المتكلم رجل من بني سليم كما ذكره مسلم في صحيحه . وفي رواية عمران بن الحصين - رضي الله عنه - اسمه : الخرباق . ذكره مسلم ، فذو اليدين الذي شهد السهو في الصلاة سلمي ، وذو الشمالين المقتول ببدر خزاعي يخالفه في الاسم والنسب ، وقد يمكن أن يكون رجلان وثلاثة يقال لكل واحد منهم : ذو اليدين وذو الشمالين ، لكن المقتول ببدر غير المذكور في حديث السهو . هذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه ، ثم روي هذا بإسناده عن مسدد . وأما قول الزهري في حديث السهو : إن المتكلم ذو الشمالين ، فلم يتابع عليه ، وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته الخاصة ، ثم ذكر طرقه وبين اضطرابها في المتن والإسناد ، وذكر أن مسلم بن الحجاج غلط الزهري في حديثه . قال أبو عمر - رحمه الله تعالى - : لا أعلم أحدا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على حديث الزهري في قصة ذي اليدين ، وكلهم تركوه لاضطرابه ، وأنه لم يتم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن . فالغلط لا يسلم منه بشر ، والكمال لله تعالى ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقول الزهري : أنه قتل يوم بدر متروك لتحقق غلطه فيه . هذا كلام أبي عمر بن عبد البر مختصرا ، وقد بسط - رحمه الله تعالى - شرح هذا الحديث بسطا لم يبسطه غيره مشتملا على التحقيق والإتقان والفوائد الجمة رضي الله عنه ، فإن قيل : كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم بعد في الصلاة ؟ فجوابه من وجهين : أحدهما أنهم لم يكونوا على يقين من البقاء في الصلاة ؛ لأنهم كانوا مجوزين نسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين ، ولهذا قال : أقصرت الصلاة أم نسيت؟ والثاني : أن هذا كان خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجوابا ، وذلك لا يبطل عندنا وعند غيرنا ، والمسألة مشهورة بذلك ، وفي رواية [ ص: 229 ] لأبي داود بإسناد صحيح أن الجماعة أومؤوا أي نعم . فعلى هذه الرواية لم يتكلموا ، فإن قيل : كيف رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قول الجماعة ، وعندكم لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إماما كان أو مأموما ، ولا يعمل إلا على يقين نفسه؟ فجوابه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم ليتذكر ، فلما ذكروه تذكر فعلم السهو فبنى عليه لا أنه رجع إلى مجرد قوله ، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره لرجع ذو اليدين حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لم تقصر ولم أنس وفي هذا الحديث دليل على أن العمل الكثير والخطوات إذا كانت في الصلاة سهوا لا تبطلها ، كما لا يبطلها الكلام سهوا .

                                                                                                                وفي هذه المسألة وجهان لأصحابنا : أصحهما عند المتولي : لا يبطلها ، لهذا الحديث ؛ فإنه ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشى إلى الجذع وخرج السرعان . وفي رواية : ( دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس وبنى على صلاته ) . والوجه الثاني - وهو المشهور في المذهب - : أن الصلاة تبطل بذلك ، وهذا مشكل ، وتأويل الحديث صعب على من أبطلها . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية