الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب استحقاق القاتل سلب القتيل

                                                                                                                1751 حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد الأنصاري وكان جليسا لأبي قتادة قال قال أبو قتادة واقتص الحديث وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير عن أبي محمد مولى أبي قتادة أن أبا قتادة قال وساق الحديث وحدثنا أبو الطاهر وحرملة واللفظ له أخبرنا عبد الله بن وهب قال سمعت مالك بن أنس يقول حدثني يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقال ما للناس فقلت أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك فقال فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال ذلك الثالثة فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا قتادة فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه وقال أبو بكر الصديق لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فأعطه إياه فأعطاني قال فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام وفي حديث الليث فقال أبو بكر كلا لا يعطيه أضيبع من قريش ويدع أسدا من أسد الله وفي حديث الليث لأول مال تأثلته

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد الأنصاري وكان جليسا لأبي قتادة قال : قال أبو قتادة واقتص الحديث ، قال مسلم : وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يحيى عن عمر بن كثير عن أبي محمد مولى أبي قتادة أن أبا قتادة قال ، وساق الحديث ، قال مسلم : وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له ، أخبرنا عبد الله بن وهب قال : سمعت مالك بن أنس يقول : حدثني يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين ) إلى آخره ، اعلم أن قوله في الطريق الأول : ( واقتص الحديث ) وقوله في الثاني : ( وساق الحديث ) يعني بهما الحديث المذكور في الطريق الثالث المذكور بعدهما ، وهو قوله : ( وحدثنا [ ص: 414 ] أبو الطاهر ) وهذا غريب من عادة مسلم فاحفظ ما حققته لك ، فقد رأيت بعض الكتاب غلط فيه ، وتوهم أنه متعلق بالحديث السابق قبلهما كما هو الغالب المعروف من عادة مسلم ، حتى إن هذا المشار إليه ترجم له بابا مستقلا وترجم للطريق الثالث بابا آخر ، وهذا غلط فاحش فاحذره . وإذا تدبرت الطرق المذكورة تيقنت ما حققته لك ، والله أعلم .

                                                                                                                واسم أبي محمد هذا : نافع بن عباس الأقرع المدني الأنصاري مولاهم .

                                                                                                                وفي هذا الحديث ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض ، وهم يحيى بن سعيد وعمر وأبو محمد .

                                                                                                                قوله : ( كانت للمسلمين جولة ) بفتح الجيم ، أي : انهزام وخيفة ذهبوا فيها ، وهذا إنما كان في بعض الجيش ، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة معه فلم يولوا ، والأحاديث الصحيحة بذلك مشهورة ، وسيأتي بيانها في مواضعها . وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يقال انهزم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرو أحد قط أنه انهزم بنفسه صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن ، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن .

                                                                                                                قوله : ( فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ) يعني : ظهر عليه وأشرف على قتله أو صرعه ، وجلس عليه لقتله .

                                                                                                                قوله : ( فضربته على حبل عاتقه ) هو ما بين العنق والكتف .

                                                                                                                قوله : ( فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ) يحتمل أنه أراد شدة كشدة الموت ، ويحتمل قاربت الموت .

                                                                                                                قوله : ( ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ) اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، فقال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق وابن جرير وغيرهم : يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك : من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل ذلك ; قالوا : وهذه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن حكم الشرع ، فلا يتوقف على قول أحد ، وقال أبو حنيفة ومالك ومن تابعهما - رحمهم الله تعالى - : لا يستحق القاتل بمجرد القتل سلب القتيل ، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة ، إلا أن يقول الأمير قبل القتال : من قتل قتيلا فله سلبه .

                                                                                                                وحملوا الحديث على هذا ، وجعلوا هذا إطلاقا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بفتوى وإخبار عام ، وهذا الذي قالوه ضعيف ; لأنه صرح في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم . والله أعلم .

                                                                                                                ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - يشترط في استحقاقه أن يغزو [ ص: 415 ] بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال ، والأصح أن القاتل لو كان ممن له رضخ ولا سهم له كالمرأة والصبي والعبد ، استحق السلب ، وقال مالك - رضي الله عنه - : لا يستحقه إلا المقاتل ، وقال الأوزاعي والشاميون . لا يستحق السلب إلا في قتيل قتله قبل التحام الحرب ، فأما من قتل في التحام الحرب فلا يستحقه .

                                                                                                                واختلفوا في تخميس السلب ، وللشافعي فيه قولان الصحيح منهما عند أصحابه لا يخمس ، هو ظاهر الأحاديث ، وبه قال أحمد وابن جرير وابن المنذر وآخرون ، وقال مكحول ومالك والأوزاعي . يخمس ، وهو قول ضعيف للشافعي ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإسحاق بن راهويه : يخمس إذا كثر ، وعن مالك رواية اختارها إسماعيل القاضي أن الإمام بالخيار إن شاء خمسه وإلا فلا .

                                                                                                                وأما قوله صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ففيه : تصريح بالدلالة لمذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتله ، ولا يقبل قوله بغير بينة ، وقال مالك والأوزاعي : يعطى بقوله بلا بينة ، قالا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السلب في هذا الحديث بقول واحد ، ولم يحلفه ، والجواب أن هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق ، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالبينة فلا تلغى ، وقد يقول المالكي : هذا مفهوم ، وليس هو بحجة عنده ، ويجاب بقوله صلى الله عليه وسلم : " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى " الحديث . " فهذا الذي قدمناه هو المعتمد في دليل الشافعي - رضي الله عنه - وأما ما يحتج به بعضهم أن أبا قتادة إنما يستحق السلب بإقرار من هو في يده فضعيف ; وإن الإقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوبا إلى من هو في يده ، فيؤخذ بإقراره والمال هنا منسوب إلى جميع الجيش ، ولا يقبل إقرار بعضهم على الباقين . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق ) هكذا في جميع روايات المحدثين في الصحيحين وغيرهما ( لاها الله إذا ) بالألف وأنكر الخطابي هذا وأهل العربية وقالوا : هو تغيير من الرواة ، وصوابه ( لاها الله ذا ) بغير ألف في أوله ، وقالوا : و ( ها ) بمعنى الواو التي يقسم بها فكأنه قال : ( لا والله ذا ) قال أبو عثمان المازري - رضي الله عنه - : معناه لاها الله ذا يميني أو ذا قسمي . وقال أبو زيد ( ذا ) زائدة ، وفيها لغتان : المد والقصر ، قالوا : ويلزم الجر بعدها كما يلزم بعد الواو ، قالوا : ولا يجوز الجمع بينهما فلا يقال : لاها والله .

                                                                                                                وفي هذا الحديث دليل على أن هذه اللفظة تكون يمينا ، قال أصحابنا : إن نوى بها اليمين [ ص: 416 ] كانت يمينا ، وإلا فلا ; لأنها ليست متعارفة في الأيمان . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله : ( لا يعمد ) فضبطوه بالياء والنون ، وكذا قوله بعده : ( فيعطيك ) بالياء والنون ، وكلاهما ظاهر .

                                                                                                                وقوله : ( يقاتل عن الله ورسوله ) أي : يقاتل في سبيل الله نصرة لدين الله وشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولتكون كلمة الله هي العليا .

                                                                                                                وفي إفتائه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم واستدلاله لذلك ، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .

                                                                                                                وفيه منقبة ظاهرة لأبي قتادة ، فإنه سماه أسدا من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله ، وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه منقبة جليلة من مناقبه .

                                                                                                                وفيه أن السلب للقاتل ; لأنه أضافه إليه فقال : ( يعطيك سلبه ) ، والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فابتعت به مخرفا في بني سلمة ) أما بنو سلمة فبكسر اللام ، وأما ( المخرف ) فبفتح الميم والراء وهذا هو المشهور ، وقال القاضي : رويناه بفتح الميم وكسر الراء كالمسجد والمسكن بكسر الكاف ، والمراد بالمخرف هنا البستان ، وقيل : السكة من النخل تكون صفين ، يخرف من أيها شاء ، أي : يجتني ، وقال ابن وهب : هي الجنينة الصغيرة ، وقال غيره : هي نخلات يسيرة . وأما ( المخرف ) بكسر الميم وفتح الراء فهو الوعاء الذي يجعل فيه ما يجتنى من الثمار ، ويقال : اخترف الثمر : إذا جناه ، وهو ثمر مخروف .

                                                                                                                قوله : ( فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام ) هو بالثاء المثلثة بعد الألف أي اقتنيته وتأصلته ، وأثلة الشيء أصله .

                                                                                                                قوله : ( لا تعطه أضيبع من قريش ) قال القاضي : اختلف رواة كتاب مسلم في هذا الحرف على وجهين : أحدهما : رواية السمرقندي ( أصيبغ ) بالصاد المهملة والغين المعجمة .

                                                                                                                والثاني : رواية سائر الرواة ( أضيبع ) بالضاد المعجمة والعين المهملة ، قال : وكذلك اختلف فيه رواة البخاري ، فعلى الثاني هو تصغير ضبع على غير قياس ، كأنه لما وصف أبا قتادة بأنه أسد مصغر هذا بالإضافة إليه وشبهه بالضبيع ; لضعف افتراسها ، وما توصف به من العجز والحمق .

                                                                                                                وأما على الوجه الأول فوصفه به لتغير لونه ، وقيل : حقره وذمه بسواد لونه ، وقيل : معناه : أنه صاحب لون [ ص: 417 ] غير محمود ، وقيل : وصفه بالمهانة والضعف ، قال الخطابي : ( الأصيبغ ) نوع من الطير ، قال : ويجوز أنه شبهه بنبات ضعيف يقال له : الصيبغا ، أول ما يطلع من الأرض يكون مما يلي الشمس منه أصفر . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية