الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                1783 حدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي وأحمد بن جناب المصيصي جميعا عن عيسى بن يونس واللفظ لإسحق أخبرنا عيسى بن يونس أخبرنا زكرياء عن أبي إسحق عن البراء قال لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه ولا يخرج بأحد معه من أهلها ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه قال لعلي اكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال له المشركون لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فأمر عليا أن يمحاها فقال علي لا والله لا أمحاها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله فأقام بها ثلاثة أيام فلما أن كان يوم الثالث قالوا لعلي هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج فأخبره بذلك فقال نعم فخرج وقال ابن جناب في روايته مكان تابعناك بايعناك

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت ) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا ( أحصر عند البيت ) وكذا نقله القاضي عن رواية جميع الرواة سوى ابن الحذاء ، فإن في روايته ( عن البيت ) وهو الوجه ، وأما الحصر وحصر فسبق بيانهما في كتاب الحج .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( أرني مكانها ، فأراه مكانها ، فمحاها وكتب : ابن عبد الله ) قال القاضي عياض - رضي الله عنه - : احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ ، وقد ذكر البخاري نحوه من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق ، وقال فيه : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب ، وزاد عنه في طريق آخر " ولا يحسن أن يكتب فكتب " قال أصحاب هذا المذهب : إن الله تعالى أجرى ذلك على يده إما بأن كتب ذلك القلم بيده وهو غير عالم بما يكتب ، أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب ، وجعل هذا زيادة في معجزاته ، فإنه كان أميا فكما علمه ما لم يعلم من العلم ، وجعله يقرأ أويتلو ما لم يكن يتلو ، كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب ، وخط ما لم يخط بعد النبوة ، أو أجرى ذلك على يده ، قالوا : وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية ، واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي وبعض السلف ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب . قال القاضي : وإلى جواز هذا ذهب الباجي ، وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيره ، وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله ، قالوا : وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : [ ص: 473 ] وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك وقوله صلى الله عليه وسلم : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، قالوا : وقوله في هذا الحديث : ( كتب ) معناه : أمر بالكتابة ، كما يقال : رجم ماعزا ، وقطع السارق ، وجلد الشارب ، أي : أمر بذلك ، واحتجوا بالرواية الأخرى : ( فقال لعلي - رضي الله تعالى عنه - اكتب محمد بن عبد الله ) قال القاضي : وأجاب الأولون عن قوله تعالى إنه لم يتل ولم يخط ، أي من قبل تعليمه كما قال الله تعالى : من قبله فكما جاز أن يتلو جاز أن يكتب ، ولا يقدح هذا في كونه أميا إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا ، فإن المعجزة حاصلة بكونه صلى الله عليه وسلم كان أولا كذلك ، ثم جاء بالقرآن ، وبعلوم لا يعلمها الأميون ، قال القاضي : وهذا الذي قالوه ظاهر ، قال : وقوله في الرواية التي ذكرناها : ( ولا يحسن أن يكتب فكتب ) كالنص أنه كتب بنفسه ، قال : والعدول إلى غيره مجاز ، ولا ضرورة إليه ، قال : وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة ، وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فلما كان يوم الثالث ) هكذا هو في النسخ كلها ( يوم الثالث ) بإضافة ( يوم ) إلى الثالث ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقد سبق بيانه مرات ، ومذهب الكوفيين : جوازه على ظاهره ، ومذهب البصريين : تقدير محذوف منه ، أي يوم الزمان الثالث .

                                                                                                                قوله : ( فأقام بها ثلاثة أيام ، فلما كان يوم الثالث ، قالوا لعلي : هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره أن يخرج فأخبره بذلك فقال : نعم : فخرج ) هذا الحديث فيه حذف واختصار ، والمقصود أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية ، وإنما وقع في السنة الثانية ، وهي عمرة القضاء ، وكانوا شارطوا النبي صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية أن يجيء بالعام المقبل فيعتمر ولا يقيم أكثر من ثلاثة أيام ، فجاء في العام المقبل ، فأقام إلى أواخر اليوم الثالث ، فقالوا لعلي - رضي الله تعالى عنه - هذا الكلام ، فاختصر هذا الحديث ، ولم يذكر أن الإقامة وهذا الكلام كان في العام المقبل ، واستغنى عن ذكره بكونه معلوما ، وقد جاء مبينا في روايات أخر ، مع أنه قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة عام الحديبية . والله أعلم .

                                                                                                                فإن قيل : كيف أحوجوهم إلى أن يطلبوا منهم الخروج ويقوموا بالشرط ؟ فالجواب : أن هذا الطلب كان قبل انقضاء الأيام الثلاثة بيسير ، وكان عزم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الارتحال عند انقضاء الثلاثة ، فاحتاط الكفار لأنفسهم وطلبوا الارتحال قبل انقضاء الثلاثة بيسير ، فخرجوا عند انقضائها وفاء بالشرط ، لا أنهم كانوا مقيمين لو لم يطلب ارتحالهم .




                                                                                                                الخدمات العلمية