الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                2039 حدثني حجاج بن الشاعر حدثني الضحاك بن مخلد من رقعة عارض لي بها ثم قرأه علي قال أخبرناه حنظلة بن أبي سفيان حدثنا سعيد بن ميناء قال سمعت جابر بن عبد الله يقول لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن قال فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغي فقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قال فجئته فساررته فقلت يا رسول الله إنا قد ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير كان عندنا فتعال أنت في نفر معك فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاليا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي هلا بكم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت بك وبك فقلت قد فعلت الذي قلت لي فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك ثم قال ادعي خابزة فلتخبز معك واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجينتنا أو كما قال الضحاك لتخبز كما هو

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                أما الحديث الثاني ، وهو حديث طعام جابر ففيه أنواع من الفوائد وجمل من القواعد : منها : الدليل الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا حتى زاد مجموعها على التواتر ، وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد ، وهو انخراق العادة بما أتى به صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام القليل الكثرة الظاهرة ، ونبع الماء وتكثيره ، وتسبيح الطعام وحنين الجذع وغير ذلك مما هو معروف ، وقد جمع ذلك العلماء في كتب دلائل النبوة ، كالدلائل للقفال الشاشي وصاحبه أبي عبد الله الحليمي ، وأبي بكر البيهقي الإمام الحافظ وغيرهم بما هو مشهور ، وأحسنها كتاب البيهقي ، فلله الحمد على ما أنعم به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلينا بإكرامه صلى الله عليه وسلم ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                قوله : ( حدثنا سعيد بن ميناء ) هو بالمد والقصر وقد تقدم بيانه مرات .

                                                                                                                قوله : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصا ) هو بفتح الخاء والميم أي رأيته ضامر البطن من الجوع .

                                                                                                                قوله : ( فانكفأت إلى امرأتي ) أي انقلبت ورجعت ، ووقع في نسخ ( فانكفيت ) وهو خلاف المعروف في اللغة ، بل الصواب ( انكفأت بالهمز ) . قوله : ( فأخرجت لي جرابا ) وهو وعاء من جلد معروف بكسر الجيم وفتحها ، الكسر أشهر وقد سبق بيانه .

                                                                                                                قوله : ( ولنا بهيمة داجن ) هي بضم الباء تصغير ( بهيمة ) وهي الصغيرة من أولاد الضأن ، قال الجوهري : وتطلق على الذكر والأنثى كالشاة والسخلة الصغيرة من أولاد المعز وقد سبق قريبا أن الداجن ما ألف البيوت .

                                                                                                                قوله : ( فجئته فساررته فقلت : يا رسول الله ) فيه : جواز المساررة بالحاجة بحضرة الجماعة ، وإنما نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي هلا بكم ) أما ( السور ) فبضم السين وإسكان الواو غير مهموز ، وهو الطعام الذي يدعى إليه ، وقيل : الطعام مطلقا ، وهي لفظة فارسية ، وقد [ ص: 187 ] تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بألفاظ غير العربية ، فيدل على جوازه .

                                                                                                                وأما ( فحي هلا ) بتنوين ( هلا ) وقيل : بلا تنوين على وزن علا ويقال : ( حي هل ) فمعناه : عليك بكذا أو ادع بكذا ، قاله أبو عبيد وغيره ، وقيل : معناه : أعجل به ، وقال الهروي : معناه هات وعجل به .

                                                                                                                قوله : ( وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس ) إنما فعل هذا لأنه صلى الله عليه وسلم دعاهم فجاءوا تبعا له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي قدامهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحال لا يتقدمهم ، ولا يمكنهم من وطء عقبيه ، وفعله هنا لهذه المصلحة .

                                                                                                                قوله : ( حتى جئت امرأتي فقالت : بك وبك ) أي ذمته ودعت عليه ، وقيل : معناه : بك تلحق الفضيحة ، وبك يتعلق الذم . وقيل : معناه : جرى هذا برأيك وسوء نظرك وتسببك .

                                                                                                                قوله : ( قد فعلت الذي قلت لي ) معناه : أنى أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بما عندنا فهو أعلم بالمصلحة .

                                                                                                                قوله : ( ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها ، وبارك ، ثم قال : ادعي خابزة فلتخبز معك ) هذه اللفظة وهي ( ادعي ) وقعت في بعض الأصول ، هكذا ( ادعي ) بعين ثم ياء وهو الصحيح الظاهر ؛ لأنه خطاب للمرأة ، ولهذا قال : فلتخبز معك ) وفي بعضها ( ادعوني ) بواو ونون ، وفي بعضها ( ادعني ) وهما أيضا صحيحان ، وتقديره : اطلبوا واطلب لي خابزة .

                                                                                                                [ ص: 188 ] وقوله : ( عمد ) بفتح الميم .

                                                                                                                قوله : ( بصق ) هكذا هو في أكثر الأصول ، وفي بعضها ( بسق ) وهي لغة قليلة ، والمشهور : بصق وبزق ، وحكى جماعة من أهل اللغة : بسق ، لكنها قليلة كما ذكرنا .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( واقدحي من برمتكم ) أي اغرفي ، والقدح : المغرفة ، يقال : قدحت المرق أقدحه ـ بفتح الدال ـ غرفته .

                                                                                                                قوله : ( وهم ألف ، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجينتنا لتخبز كما هو ) قوله : ( تركوه وانحرفوا ) أي شبعوا وانصرفوا ، وقوله : ( تغط ) بكسر الغين المعجمة وتشديد الطاء ، أي تغلي ، ويسمع غليانها ، وقوله : ( كما هو ) يعود إلى العجين . وقد تضمن هذا الحديث علمين من أعلام النبوة : أحدهما : تكثير الطعام القليل ، والثاني : علمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفا وزيادة ، فدعا له ألفا قبل أن يصل إليه ، وقد علم أنه صاع شعير وبهيمة . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية