الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      1069 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقلت له إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت كم أنتم يومئذ قال أربعون

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( ترحم ) الماضي من التفعيل ، وفي رواية ابن ماجه " كلما سمع أذان الجمعة يستغفر لأبي أمامة ويصلي عليه " ( في هزم ) بفتح الهاء وسكون الزاي المطمئن من الأرض . قال ابن الأثير : هزم بني بياضة هو موضع بالمدينة ( النبيت ) بفتح النون وكسر الباء الموحدة وسكون الياء التحتية وبعدها تاء فوقية هو أبو حي باليمن اسمه عمرو بن مالك كذا في القاموس ( من حرة ) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء هي الأرض ذات الحجارة السود . قال العيني هي قرية على ميل من المدينة ( بني بياضة ) هي بطن من الأنصار ( في نقيع ) بالنون ثم القاف ثم الياء التحتية بعدها عين مهملة . قال ابن الأثير : هو موضع قريب من المدينة كان يستنقع فيه الماء أي يجتمع . وقال الخطابي في المعالم : النقيع بطن الوادي من الأرض يستنقع فيه الماء مدة ، وإذا نضب الماء أي غار في الأرض أنبت الكلأ ومنه حديث عمر أنه حمى النقيع لخيل المسلمين . وقد يصحف أصحاب الحديث فيروونه البقيع بالباء : موضع القبور بالمدينة ، وهو المعالي من الأرض . انتهى . ( يقال [ ص: 297 ] له ) أي النقيع ( نقيع الخضمات ) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين موضع بنواحي المدينة كذا في النهاية . والمعنى أنه جمع في قرية يقال لها هزم النبيت وهي كانت في حرة بني بياضة في المكان الذي يجتمع فيه الماء ، واسم ذلك المكان نقيع الخضمات ، وتلك القرية هي على ميل من المدينة . كذا في غاية المقصود .

                                                                      قال الخطابي : وفي الحديث من الفقه أن الجمعة جوازها في القرى كجوازه في المدن والأمصار ، لأن حرة بني بياضة يقال على ميل من المدينة . وقد استدل به الشافعي على أن الجمعة لا تجوز بأقل من أربعين رجلا أحرارا مقيمين ، وذلك أن هذه الجمعة كانت أول ما شرع من الجمعات ، فكان جميع أوصافها معتبرة فيها ، لأن ذلك بيان لمجمل واجب وبيان المجمل الواجب واجب . وقد روي عن عمر بن عبد العزيز اشتراط عدد الأربعين في الجمعة ، وإليه ذهب أحمد وإسحاق . إلا أن عمر قد اشترط مع عدد الأربعين أن يكون فيها وال ، وليس الوالي من شرط الشافعي .

                                                                      وقال مالك : إذا كان جماعة في القرية التي بيوتها متصلة وفيها مسجد يجمع فيه وسوق وجبت عليهم الجمعة ، ولم يذكر عددا محصورا ولم يشترط الوالي ، ومذهبه في الوالي كمذهب الشافعي .

                                                                      وقال أصحاب الرأي : لا جمعة إلا في مصر جامع وتنعقد عندهم الجمعة بأربعة .

                                                                      قال الأوزاعي : إذا كانوا ثلاثة صلوا جمعة إذا كان فيهم الوالي . وقال أبو ثور كسائر الصلوات في العدد . انتهى كلام الخطابي .

                                                                      قلت : حديث ابن عباس وكعب بن مالك المذكوران في الباب فيهما دلالة واضحة على صحة صلاة الجمعة في القرى فحديث ابن عباس أخرجه أيضا البخاري في صحيحه ، وحديث كعب أخرجه أيضا ابن ماجه وزاد فيه : " كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة " وأخرجه الدارقطني وابن حبان والبيهقي في سننه وقال حسن الإسناد صحيح ، وقال في خلافياته رواته كلهم ثقات ، والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم . وقال الحافظ في التلخيص إسناده حسن .

                                                                      قلت : الأمر كما قال البيهقي فإن إسناده حسن قوي ورواته كلهم ثقات وفيه محمد بن إسحاق ، وقد عنعن عن محمد بن أبي أمامة في رواية ابن إدريس كما عند المؤلف أبي داود ، لكن أخرج الدارقطني ثم البيهقي في المعرفة من طريق وهب بن جرير حدثنا أبي [ ص: 298 ] عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن أبي أمامة عن أبيه ثم ساق الحديث . ومحمد بن إسحاق ثقة عند شعبة وعلي بن عبد الله وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وعامة أهل العلم ولم يثبت فيه جرح فتقبل روايته إذا صرح بالتحديث ، وهاهنا صرح به فارتفعت عنه مظنة التدليس . وفي هذا كله رد على العلامة العيني حيث ضعف الحديث في شرح البخاري لأجل محمد بن إسحاق وهذا تعنت وعصبية منه .

                                                                      وفي الباب عند الدارقطني من طريق الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة وهذا الحديث أخرجه الدارقطني بثلاثة طرق وكلها ضعيفة ، وأخرجه أيضا الطبراني والبيهقي وابن عدي وضعفوه ، والتفصيل في التعليق المغني على سنن الدارقطني .

                                                                      قال العيني : ليس في حديث كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك أو أقرهم عليه . انتهى . وتقدم آنفا الجواب عن هذا الكلام . وقال البيهقي في المعرفة : وكانوا لا يستبدون بأمور الشرع لجميل نياتهم في الإسلام ، فالأشبه أنهم لم يقيموا في هذه القرية إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم - انتهى .

                                                                      وقال الإمام ابن حزم رحمه الله : ومن أعظم البرهان على صحتها في القرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المدينة وإنما هي قرى صغار متفرقة فبنى مسجده في بني مالك بن النجار وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة ولا مصر هناك انتهى . وهذا الكلام حسن جدا .

                                                                      وأخرج محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح عن علي بن خشرم عن عيسى بن يونس عن شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة عن أبي رافع " أن أبا هريرة كتب إلى عمر - رضي الله عنه - يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين فكتب إليهم أن جمعوا حيثما كنتم " قال البيهقي في المعرفة إسناد هذا الأثر حسن . قال الشافعي معناه في أي قرية كنتم لأن مقامهم بالبحرين إنما كان في القرى . وأيضا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي رافع عن أبي هريرة عن عمر أنه " كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم " قال العيني سنده صحيح . وأيضا أخرجه سعيد بن منصور في سننه وصححه ابن خزيمة ، وهذا يشمل المدن والقرى .

                                                                      وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي مسعود الأنصاري قال " أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا " وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف . قال الحافظ : ويجمع بين رواية الطبراني هذه ورواية أسعد بن زرارة التي عند المؤلف بأن [ ص: 299 ] أسعد كان آمرا وكان مصعب إماما . قال البيهقي في المعرفة : وروينا عن معاذ بن موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة مر على بني سالم وهي قرية بين قباء والمدينة فأدركته الجمعة فصلى فيهم الجمعة وكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم انتهى . ثم أخرج البيهقي من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال كل قرية فيها أربعون رجلا فعليهم الجمعة . ومن طريق سليمان بن موسى " أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل المياه فيما بين الشام ومكة جمعوا إذا بلغتم أربعين رجلا " قال البيهقي وروينا عن أبي المليح الرقي أنه قال أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز " إذا بلغ أهل القرية أربعين رجلا فليجمعوا " وعن جعفر بن برقان قال " كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي الكندي انظر كل قرية أهل قرار ليسوا هم بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميرا ثم مره فليجمع بهم " .

                                                                      وحكى الليث بن سعد أن أهل الإسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بأمرهما وفيها رجال من الصحابة . وكان الوليد بن مسلم يروي عن شيبان عن مولى لآل سعيد بن العاص أنه سأل ابن عمر عن القرى التي بين مكة والمدينة ما ترى في الجمعة قال نعم إذا كان عليهم أمير فليجمع انتهى كلام البيهقي . وفي المصنف عن مالك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون انتهى .

                                                                      هذه الآثار للسلف في صحة الجمعة في القرى ويكفي لك عموم آية القرآن الكريم إذا نودي للصلاة الآية ولا ينسخها أو لا يخصصها إلا آية أخرى أو سنة ثابتة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنسخها آية ولم يثبت خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                      واعلم أن جماعة من الأئمة استدلوا بحديث كعب بن مالك وما ذكر من الآثار على اشتراط أربعين رجلا في صلاة الجمعة وقالوا إن الأمة أجمعت على اشتراط العدد والأصل الظهر فلا تصلح الجمعة إلا بعدد ثابت بدليل ، وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صحيح ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا كما رأيتموني أصلي قالوا ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين .

                                                                      وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في الحديث على اشتراط الأربعين لأن هذه واقعة عين وذلك أن الجمعة فرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة قبل الهجرة كما أخرجه الطبراني عن [ ص: 300 ] ابن عباس فلم يتمكن من إقامتها هنالك من أجل الكفار ، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا واتفق أن عدتهم إذا كانت أربعين ، وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة . وقد تقرر أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم . وروى عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة . قالت الأنصار : لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره فجعلوه يوم العروبة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية قال الحافظ في التلخيص ورجاله ثقات إلا أنه مرسل .

                                                                      وقولهم لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بأقل من أربعين يرده حديث جابر عند الشيخين وأحمد والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا فأنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما واللفظ لأحمد وما أخرجه الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري والدارقطني والبيهقي عن أم عبد الله الدوسية ، وتقدم كل ذلك .

                                                                      وأما احتجاجهم بحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي بلفظ في كل أربعين رجلا وهذا هو الصحيح المختار وقال الحافظ عبد الحق في أحكامه : لا يصح في عدد الجمعة شيء .

                                                                      وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص : وقد وردت عدة أحاديث تدل على الاكتفاء بأقل من أربعين وكذلك قال السيوطي : لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص انتهى . والخلاف في هذه المسألة منتشر جدا ، وقد ذكر الحافظ في الفتح خمسة عشر مذهبا لا نطيل الكلام بذكره .

                                                                      واستدل الحنفية على أن الجمعة لا تجوز في القرى بما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : " لا تشريق ولا جمعة إلا في مصر جامع " وابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عباد بن العوام عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال " لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيم " وفيهما الحارث الأعور وهو ضعيف جدا لا يحل الاحتجاج به وروى ابن أبي شيبة أيضا حدثنا جرير عن منصور عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن أنه قال : قال علي " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع " وأخرجه أيضا [ ص: 301 ] عبد الرزاق أنبأنا الثوري عن زبيد الإيامي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي مثله قال العيني : إسناد طريق جرير صحيح . وقال البيهقي في المعرفة : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان حدثنا أبو بكر بن محمويه حدثنا جعفر بن محمد القلانسي حدثنا شعبة عن زبيد الإيامي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال " لا تشريق ولا جمعة إلا في مصر جامع " وكذلك رواه الثوري عن زبيد موقوفا انتهى .

                                                                      قال البيهقي والزيلعي وابن حجر : لم يثبت حديث علي مرفوعا وأما موقوفا فيصح .

                                                                      وقال ابن الهمام في شرح الهداية : وكفى بعلي قدوة وإماما انتهى . وهذا ليس بشيء لأن للاجتهاد فيه مسرحا فلا تقوم به الحجة . وقد عارضه عمل عمر وعثمان وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ورجال من الصحابة رضي الله عنهم - وهذه الآثار مطابقة لإطلاق الآية الكريمة والأحاديث النبوية فهي أحرى بالقبول ، ولذا قال الحافظ ابن حجر : فلما اختلف الصحابة وجب الرجوع إلى المرفوع .

                                                                      قلت : هذا هو المتعين ولا يحل سواه . وأيضا لا يدرى ما حد المصر الجامع أهي القرى العظام أم غير ذلك ، فإن قال قائل : بل هي القرى العظام ، قيل له : فقد جمع الناس في القرى التي بين مكة والمدينة على عهد السلف ، وبالربذة على عهد عثمان ، كما ذكره البيهقي في المعرفة ، وإنما رأينا الجمعة وضعت عن المسافر والنساء وأما أهل القرى فلم توضع عنهم . قال في التعليق المغني : وحاصل الكلام أن أداء الجمعة كما هو فرض عين في الأمصار فهكذا في القرى من غير فرق بينهما ولا ينبغي لمن يريد اتباع السنة أن يترك العمل على ظاهر آية القرآن والأحاديث الصحاح الثابتة بأثر موقوف ليس علينا حجة على صورة المخالفة للنصوص الظاهرة . وأما أداء الظهر بعد أداء الجمعة على سبيل الاحتياط فبدعة محدثة فاعلها آثم بلا مرية ، فإن هذا إحداث في الدين والله أعلم .




                                                                      الخدمات العلمية