الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      4324 حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس بيني وبينه نبي يعني عيسى وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك المسيح الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( يعني عيسى عليه السلام ) هذا تفسير للضمير المجرور في " بينه " من بعض الرواة ( نبي ) : اسم مؤخر لليس . قال السيوطي في مرقاة الصعود : أو الحديث عند أحمد : الأنبياء إخوة لعلات ، [ ص: 354 ] أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم . لم يكن بيني وبينه نبي انتهى .

                                                                      وأخرج أبو داود في باب التخيير بين الأنبياء من كتاب السنة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنا أولى الناس بابن مريم ، الأنبياء أولاد علات وليس بيني وبينه نبي .

                                                                      ( وإنه ) : أي عيسى عليه السلام ( نازل ) : وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا هشام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يمكث عيسى في الأرض بعدما ينزل أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه . وهذا حديث إسناده قوي .

                                                                      أبو داود الطيالسي هو سليمان بن داود البصري قال عبد الرحمن بن مهدي : هو أصدق الناس ، وقال أحمد : ثقة ، وقال وكيع : جبل العلم وشيخه هشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي أمير المؤمنين في الحديث قال العجلي : ثقة ثبت أخرج له الأئمة الستة ، وقتادة بن دعامة البصري ثقة ثبت أحد الأئمة الأعلام أخرج له الأئمة الستة ، وأما عبد الرحمن بن آدم فهو من رجال مسلم ووثقه ابن حبان . والله أعلم .

                                                                      قال القرطبي في التذكرة : ذهب قوم إلى أن بنزول عيسى عليه السلام يرتفع التكليف ; لئلا يكون رسولا إلى أهل ذلك الزمان ، يأمرهم عن الله وينهاهم ، وهذا مردود لقوله تعالى : وخاتم النبيين وقوله صلى الله عليه وسلم لا نبي من بعدي وغير ذلك من الأخبار ، وإذا كان ذلك فلا يجوز أن يتوهم أن عيسى عليه السلام ينزل نبيا بشريعة متجددة غير شريعة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم ، بل إذا نزل فإنه يكون يومئذ من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث قال لعمر : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي فعيسى عليه السلام إنما ينزل مقررا لهذه الشريعة ومجددا لها ، إذ هي آخر الشرائع ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل ، فينزل حكما مقسطا ، وإذا صار حكما فإنه لا سلطان يومئذ للمسلمين ولا إمام ولا قاضي ولا مفتي غيره ، وقد قبض الله العلم وخلا الناس منه فينزل وقد علم بأمر الله تعالى في السماء قبل أن ينزل ما يحتاج إليه من علم هذه الشريعة للحكم بين الناس والعمل به في نفسه فيجتمع المؤمنون عند ذكر ذلك إليه ويحكمونه على أنفسهم ، إذ لا أحد يصلح لذلك غيره . [ ص: 355 ]

                                                                      قال السيوطي : ما قاله ككون العلماء يسلبون علمهم باطل قطعا بل لا تزال الأمة بعلمائهم وقضاتهم وغيرهم إلا أن الإمام الأكبر المرجوع إليه هو نبي الله عيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، وقبض العلم إنما يكون بعد موت المؤمنين .

                                                                      ( رجل ) : أي هو رجل ( مربوع ) : أي بين الطويل والقصير ( بين ممصرتين ) : قال في النهاية : الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة ، أي ينزل عيسى عليه السلام بين ثوبين فيهما صفرة خفيفة ( كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ) : كناية عن النظافة والنضارة ( فيدق الصليب ) : أي يكسره . قال في شرح السنة وغيره : أي فيبطل النصرانية ويحكم بالملة الحنيفية .

                                                                      وقال ابن الملك : الصليب في اصطلاح النصارى خشبة مثلثة يدعون أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب على خشبة مثلثة على تلك الصورة وقد يكون فيه صورة المسيح ( ويقتل الخنزير ) : أي يحرم اقتناءه وأكله ويبيح قتله ( ويضع الجزية ) : قال الخطابي : أي يكره أهل الكتاب على الإسلام ، فلا يقبل منهم الجزية بل الإسلام أو القتل .

                                                                      وقال في النهاية : فلا يبقى ذمي تجرى عليه جزية ، أي لا يبقى فقير لاستغناء الناس بكثرة الأموال فتسقط الجزية لأنها إنما شرعت لترد في مصالح المسلمين تقوية لهم فإذا لم يبق محتاج لم تؤخذ .

                                                                      وقال القاضي عياض : أو أراد بوضع الجزية تقريرها على الكفار بلا محاباة فيكثر المال بسببه . وتعقبه النووي بأن صوابه أن عيسى لا يقبل غير الإسلام . ويؤيده ما في رواية أحمد : وتكون الدعوة واحدة .

                                                                      قال النووي : فليس بإسقاط الجزية نسخ لما تقرر بشريعتنا لأنه مقيد بأنها تستمر إلى نزوله فتوضع . فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين غاية استمرارها ، فلا نسخ لشريعته بل هو عمل بما بينه صلى الله عليه وسلم . كذا في مرقاة الصعود .

                                                                      ( ويهلك ) : من الإهلاك ، أي عيسى عليه السلام ( المسيح الدجال ) : مفعول يهلك . زاد أحمد : ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيات ( فيمكث ) : أي عيسى عليه السلام ( في الأرض أربعين سنة ) : قال الحافظ عماد الدين بن كثير : ويشكل بما في رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو [ ص: 356 ] أنه يمكث في الأرض سبع سنين قال : اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله فيكون ذلك مضافا لمكثه بها قبل رفعه إلى السماء ، فعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة بالمشهور . انتهى .

                                                                      وفي فتح الباري في كتاب الأنبياء : وعند أحمد من حديث عائشة : ويمكث عيسى في الأرض أربعين سنة . وروى مسلم من حديث ابن عمرو في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين .

                                                                      وروى نعيم بن حماد في كتاب الفتن من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة . وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة بها أربعين سنة . وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعا . انتهى .

                                                                      ( ثم يتوفى ) : بصيغة المجهول .

                                                                      قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : يتوفى بطيبة فيصلى عليه هنالك ويدفن بالحجرة النبوية . وقد روى الترمذي عن عبد الله بن سلام : مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه . كذا في مرقاة الصعود .

                                                                      قال المنذري : عبد الرحمن بن آدم هذا أخرج له مسلم في صحيحه حديثا عن جابر بن عبد الله وهو بصري يقال فيه ابن برثن بضم الباء الموحدة وتسكين الراء المهملة وضم الثاء المثلثة وبعدها نون في قول ، ويعرف بصاحب السقاية . وقال الدارقطني : عبد الرحمن بن آدم إنما نسب إلى آدم أبي البشر ولم يكن له أب يعرف . انتهى كلام المنذري مختصرا .

                                                                      وقال الحافظ في التقريب : عبد الرحمن بن آدم البصري صاحب السقاية صدوق . وقال في فتح الباري : إسناده صحيح كما تقدم آنفا .

                                                                      وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة مرفوعا : إن روح الله عيسى نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام ، فيهلك الله في زمانه المسيح الدجال ويقع الأمنة على الأرض فذكر الحديث . وفيه : فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون .

                                                                      قلت : تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من السماء بجسده [ ص: 357 ] العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة وهذا هو مذهب أهل السنة .

                                                                      قال النووي قال القاضي : نزول عيسى صلى الله عليه وسلم وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله ، فوجب إثباته . وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم ، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى : وخاتم النبيين وبقوله صلى الله عليه وسلم : لا نبي بعدي وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ . وهذا استدلال فاسد ; لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا ، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا ، بل صحت هذه الأحاديث هنا ، أي في كتاب الفتن وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس . انتهى .

                                                                      وفي فتح الباري : تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة ، وأن عيسى عليه السلام يصلي خلفه .

                                                                      وقال الحافظ أيضا : الصحيح أن عيسى رفع وهو حي . انتهى .

                                                                      وقال الشوكاني في رسالته المسماة بالتوضيح في تواتر ما جاء في الأحاديث في المهدي والدجال والمسيح : وقد ورد في نزول عيسى صلى الله عليه وسلم من الأحاديث تسعة وعشرون حديثا ، ثم سردها وقال بعد ذلك : وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع ، فتقرر بجميع ما سقناه أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة ، والأحاديث الواردة في الدجال متواترة ، والأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام متواترة . انتهى .

                                                                      وإني أسرد بعض الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام غير ما تقدم ذكره في المتن والشرح لشدة الاحتياج إليه في عصرنا هذا فأقول : أخرج البخاري في باب قتل الخنزير من كتاب البيوع ، ومسلم في كتاب الإيمان واللفظ للبخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد . [ ص: 358 ]

                                                                      وقال مسلم : حدثنا قتيبة بن سعيد قال أخبرنا ليث ح . وحدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد . وأخرجه الترمذي عن قتيبة عن الليث مثله سندا ومتنا وقال حديث حسن صحيح . انتهى .

                                                                      وقال مسلم : وحدثناه عبد الأعلى بن هماد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالوا : أخبرنا سفيان بن عيينة ح . وحدثنيه حرملة بن يحيى قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني يونس ح . وحدثنا حسن الحلواني وعبد بن حميد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال : أخبرنا أبي عن صالح كلهم عن الزهري بهذا الإسناد . وفي رواية ابن عيينة : إماما مقسطا وحكما عدلا وفي رواية يونس حكما عادلا ولم يذكر إماما مقسطا . وفي حديث صالح حكما مقسطا كما قال الليث . وفي حديثه من الزيادة وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته انتهى . وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة بنحو إسناد مسلم بلفظ : لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم حكما مقسطا . الحديث .

                                                                      وأخرج البخاري في باب كسر الصليب من كتاب المظالم . حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب فذكر الحديث . وأخرج في باب نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من كتاب الأنبياء حدثنا إسحاق أنبأنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فذكر الحديث وفيه : ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا حدثنا ابن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم تابعه عقيل والأوزاعي . انتهى كلام البخاري . [ ص: 359 ]

                                                                      وحديث نافع عن أبي هريرة أخرجه مسلم في كتاب الإيمان من ثلاثة طرق وأخرج من حديث عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد .

                                                                      وأخرج مسلم من حديث ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة .

                                                                      وأخرج مسلم في حديث طويل في الفتن عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة فذكر الحديث بطوله .

                                                                      وعند أحمد من حديث جابر في قصة الدجال ونزول عيسى : وإذا هم بعيسى فيقال : تقدم يا روح الله ، فيقول : ليتقدم إمامكم فليصل بكم . ولابن ماجه في حديث أبي أمامة الطويل في الدجال قال : وكلهم ، أي المسلمون ، ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى ، فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول : تقدم فإنها لك أقيمت . انتهى .

                                                                      وأخرج مسلم في الفتن من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق ، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافوا قالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم ، فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله . ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا ، فيفتتحون قسطنطينية ، فبينا هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشام خرج ، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم الحديث .

                                                                      [ ص: 360 ] وقال الشوكاني في التوضيح : أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد بإسناد فيه كثير بن زيد ، وثقه أحمد وجماعة وبقية رجاله رجال الصحيح بلفظ : يوشك المسيح ابن مريم أن ينزل حكما مقسطا ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، وتكون الدعوة واحدة ، فأقرئوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام .

                                                                      وأخرج أحمد بإسنادين رجالهما رجال الصحيح من حديث أبي هريرة : إني لأرجو إن طال بي عمر أن ألقى عيسى ابن مريم فإن عجل بي موت فمن لقيه فليقرئه مني السلام انتهى .

                                                                      قلت : لفظ أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني لأرجو إن طال بي عمر أن ألقى عيسى ابن مريم عليه السلام ، فإن عجل بي موت فمن لقيه منكم فليقرئه مني السلام .

                                                                      حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة فذكره .

                                                                      وأخرج الحاكم من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ : ليهبطن عيسى ابن مريم حكما وإماما مقسطا وليسلكن فجاجا حاجا أو معتمرا وليأتين قبري حتى يسلم ولأردن عليه . انتهى .

                                                                      وأخرج الترمذي في باب قتل عيسى ابن مريم الدجال من حديث عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري قال : سمعت عمي مجمع بن جارية الأنصاري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يقتل ابن مريم الدجال بباب لد هذا حديث صحيح .

                                                                      وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وكيسان وعثمان بن أبي العاص وجابر وأبي أمامة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان وعمرو بن عوف وحذيفة بن اليمان انتهى .

                                                                      فلا يخفى على كل منصف أن نزول عيسى ابن مريم عليه السلام إلى الأرض حكما مقسطا بذاته الشريفة ثابت بالأحاديث الصحيحة والسنة المطهرة واتفاق أهل السنة وأنه الآن حي في السماء لم يمت بيقين .

                                                                      وأما ثبوته من الكتاب فقال الله عز وجل ردا على اليهود المغضوب عليهم الزاعمين [ ص: 361 ] أنهم قتلوا عيسى ابن مريم عليه السلام : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ففي هذه الآية الكريمة أخبرنا الله تعالى أن الذي أراد اليهود قتله وأخذه وهو عيسى بجسمه العنصري لا غير رفعه الله إليه ولم يظفروا منه بشيء كما وعده الله تعالى قبل رفعه بقوله : وما يضرونك من شيء وبرفع جسده حيا فسره ابن عباس كما ثبت عنه بإسناد صحيح .

                                                                      فثبت بهذا أن عيسى عليه السلام رفع حيا ويدل على ما ذكرناه الأحاديث الصحيحة المتواترة المذكورة ، المصرحة بنزوله بذاته الشريفة ، التي لا تحتمل التأويل .

                                                                      وقال الله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي قبل موت عيسى ابن مريم عليه السلام كما قال أبو هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة والسلف الصالحين وهو الظاهر كما في تفسير ابن كثير ، فثبت أن عيسى عليه السلام لم يمت بل يموت في آخر الزمان ويؤمن به كل أهل الكتاب .

                                                                      وقد ذكر الله تعالى في كتابه أن نزوله إلى الأرض من علامات الساعة قال الله تعالى : وإنه لعلم للساعة .

                                                                      وقال الإمام ابن كثير في تفسيره : الصحيح أن الضمير عائد إلى عيسى عليه السلام ، فإن السياق في ذكره وأن المراد نزوله قبل يوم القيامة كما قال تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي قبل موت عيسى عليه السلام ، ويؤيد هذا المعنى القراءة ( وإنه لعلم للساعة ) يعني بفتح العين واللام أي أمارة ودليل على وقوع الساعة .

                                                                      وقال مجاهد : وإنه لعلم للساعة أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة .

                                                                      وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ، وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا انتهى .

                                                                      فهذه الآيات الكريمة والنصوص الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء إلى الأرض عند قرب الساعة ولا ينكر نزوله إلا ضال مضل معاند للشرع مخالف لكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أهل السنة .

                                                                      [ ص: 362 ] ومن المصائب العظمى والبلايا الكبرى على الإسلام أن رجلا من الملحدين الدجالين الكذابين خرج من الفنجاب من إقليم الهند ، وهو مع كونه مدعيا للإسلام كذب الشريعة وعصى الله ورسوله وطغى ، وآثر الحياة الدنيا ، وكان أول ما ادعاه أنه محدث وملهم من الله تعالى ثم كثرت فتنته وعظمت بليته من سنة ست وألف وثلاث مائة إلى السنة الحاضرة وهي سنة عشرين بعد الألف وثلاث مائة ، وألف الرسائل العديدة [ منها توضيح المراد ، ومنها إزالة الأوهام ومنها فتح الإسلام وغير ذلك من التحريرات ] في إثبات ما ادعاه من الإلهامات الكاذبة والدعاوى العقلية الواهية وأقوال الزندقة والإلحاد ، وحرف الكلم والنصوص الظاهرة عن مواضعها ، وتفوه بما تقشعر منه الجلود وبما لم يجترئ عليه إلا غير أهل الإسلام ، أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شروره ونفثه ونفخه فمن أقواله الواهية المردودة التي صرح بها في رسائله أن نزول عيسى ابن مريم ورفعه إلى السماء بجسده العنصري من الخرافات والمستحيلات .

                                                                      وادعى أن عيسى المسيح الموعود في الشريعة المحمدية والخارج في آخر الزمان لقتل الدجال ليس هو عيسى ابن مريم الذي توفي ، بل المسيح الموعود مثيله وهو أنا الذي أنزلني الله تعالى في القاديان وأنا هو الذي جاء به القرآن العظيم ونطقت به السنة النبوية ، وأما عيسى ابن مريم فليس بحي في السماء .

                                                                      وأنكر وجود الملائكة على الوجه الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنكر نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنكر نزول ملك الموت ، وأنكر ليلة القدر .

                                                                      ويذهب في وجود الملائكة مذهب الفلاسفة والملاحدة ويقول إن النبوة التامة قد انقطعت ولكن النبوة التي ليس فيها إلا المبشرات فهي باقية إلى يوم القيامة لا انقطاع لها أبدا ، وأن أبواب النبوة الجزئية مفتوحة أبدا . ويقول إن ظواهر الكتاب والسنة مصروفة عن ظواهرها ، وإن الله تعالى لم يزل يبين مراده بالاستعارات والكنايات . وغير ذلك من الخرافات والعقائد الباطلة .

                                                                      قلت : وأكثر عقائده ومعظم مقالاته موافق لمقالات الفرقة النيجرية الطاغية ومطابق لمذهب هؤلاء الطائفة الزائغة ، فإن الطائفة النيجرية أفسدت في أرض الهند وتقولت على الله بما لم يقل به ، وصنف رئيس النيجرية وإمامهم تفسيرا للقرآن الكريم بلغة الهند ففسره برأيه الفاسد وحرف في معاني القرآن وصرف إلى غير محله ، وجاء بالطامة الكبرى [ ص: 363 ] وأنكر معظم عقائد الإسلام ، وأحكم وأتقن مذاهب الفلاسفة وأهل الأهواء ، وعكف على تأليفات هؤلاء فاستخرج عنها ما أراد من الأقوال المضادة للشريعة والمخالفة للسنة النبوية عليه أفضل الصلاة والتحية ، ورد الأحاديث الصحيحة الثابتة ، وأنكر وجود الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار وأنكر المعجزات بأسرها ، وأثبت الأب لعيسى ابن مريم عليه السلام ، وغير ذلك من المقالات الباطلة المردودة ، وصنف لإثبات هذه المقالات رسائل كثيرة ، وحرر التحريرات ، فضل وأضل كثيرا من الناس ; لكن علماء الإسلام لم يزل دأبهم وهمتهم لرد مقالات أهل الإلحاد والزيغ والفساد ويعدون ذلك خير ذخيرة للمعاد ، فقام على رد مقالاته الفاسدة شيخنا العلامة القاضي بشير الدين القنوجي فصنف كتابا سماه بإمداد الآفاق برجم أهل النفاق في رد تهذيب الأخلاق ، وغير ذلك من التحريرات العجيبة والمضامين البالغة . وجرى بين شيخي وبين رئيس تلك الطائفة تحريرات شتى إلى عدة سنين يطول بذكرها المقام .

                                                                      ثم بعد ذلك تعاقب تعاقبا حسنا ورد كلامه ردا بليغا الفاضل اللاهوري وشفا صدور المؤمنين ، فرئيس النيجرية متبوع وإمام صراط الضلالة أي المدعي لمثيل المسيح تابع له في أكثر الأقوال الباطلة ، وإنما الاختلاف بينهما في تلك الإلهامات الكاذبة والادعاء لمثيل المسيح .

                                                                      فالواجب على كل مسلم أن يبين للناس ضلال هذا الرجل المفتري المدعي أن المسيح عليه السلام قد مات وأنه مثيل عيسى بل عيسى عليه السلام حي في السماء وينزل في آخر الزمان بذاته الشريفة ، وقد تقدم أن عيسى عليه السلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وليست مدينة دمشق ولا المنارة البيضاء بلدة القادياني ولا منارته .

                                                                      وتقدم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وصف عيسى صلى الله عليه وسلم بأنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، وأنه ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، وأنه بنزوله تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد ، وأنه يدعو إلى المال فلا يقبله أحد ، وأنه يحثو المال حثوا ، وأنه يقاتل على الإسلام ، ولا وجود لهذه الأوصاف الشريفة المذكورة في هذا الرجل المدعي أنه مثيل عيسى وأن عيسى عليه السلام لا أب له كما دلت عليه الأخبار الصحيحة [ ص: 364 ] وهذا الرجل له أب وجد وليس فيه من الصفات ما يصحح دعاويه كلها أكاذيب واهية تدل على ضلالة وسخف عقله وفساد رأيه ومن يضلل الله فما له من هاد .

                                                                      وقد رد عليه جماعة من العلماء منهم شيخنا الإمام رحلة الآفاق السيد نذير حسين الدهلوي أدام الله بركاته ، ومنهم شيخنا المحدث القاضي حسين بن محسن الأنصاري ألف رسالة سماها بالفتح الرباني في الرد على القادياني وغيرهما من العلماء الكرام الحامي لدين الإسلام ، واتفقت كلمتهم بأن الرجل المذكور قد أظهر في رسائله عقائد كفرية ومقالات بدعية خرج بها عن اتباع السنن والإسلام ، وتبع فيها الفلاسفة والأرية والنصارى والملاحدة الباطنية اللئام ، وأنه قد عارض الحق الصريح وأنكر كثيرا من ضروريات الدين وإجماع السلف الصالحين ، فلا ينبغي للمسلمين أن يجالسوه ويخالطوه والله تعالى أعلم .

                                                                      ومثل هذا الرجل المدعي خرج رجل في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وادعى بأنه عيسى ابن مريم كما قال الشيخ أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله في رسالته المسماة ببغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد ، وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود ، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهدا ومعرفة ورياضة ، وكان من أشد الناس تعظيما لابن سبعين ومفضلا له عنده على ابن عربي وغلامه ابن إسحاق . وأكثر الناس من الكبار والصغار كانوا يطيعون أمره وكان أصحابه الخواص به يعتقدون فيه أنه أي ابن هود المسيح ابن مريم ويقولون إن أمه اسمها مريم وكانت نصرانية ، ويعتقدون أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ينزل فيكم ابن مريم هو هذا ، وأن روحانية عيسى عليه السلام تنزل عليه ، وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس عندهم في معرفته بالعلوم الفلسفية وغيرها مع دخوله في الزهد والتصوف ، وجرت بيني وبينهم مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها حتى بينت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى المسيح ، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا الرجل ، وبينت لهم فساد ما دخلوا فيه من القرمطة حتى أظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذا الرجل لا يكون ولا يتم ، وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ ، فأبر الله تلك الأقسام والحمد لله رب العالمين . هذا مع تعظيمهم لي وبمعرفتي عندهم وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون بحال حقيقتهم وغوامضهم وإنما الناس عندهم كالبهائم انتهى كلامه مختصرا .




                                                                      الخدمات العلمية