الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      4927 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا سلام بن مسكين عن شيخ شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون يتلعبون يغنون فحل أبو وائل حبوته وقال سمعت عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الغناء ينبت النفاق في القلب [ ص: 220 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 220 ] " 6126 " ( فحل ) : يقال حللت العقدة حلا من باب قتل ( حبوته ) : أي احتباءه . قال في النهاية : يقال احتبى يحتبي احتباء والاسم الحبوة بالكسر والضم ومنه الحديث أنه نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب . انتهى .

                                                                      ( إن الغناء ينبت النفاق في القلب ) : قال ابن القيم : أما تسميته منبت النفاق فثبت عن ابن مسعود أنه قال : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع ، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع " وقد رواه ابن أبي الدنيا عنه مرفوعا في كتاب ذم الملاهي والموقوف أصح . وهذا أدل دليل على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأدوائها وأدويتها وأنهم أطباء القلوب .

                                                                      واعلم أن للغناء خواص فمنها أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه ، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب لما بينهما من التضاد ، فالقرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة الشهوات وأسباب الغي ، والغناء يأمر بضد ذلك ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغي .

                                                                      قال بعض العارفين : السماع يورث بعض النفاق في قوم والعناد في قوم والتكذيب في قوم والفجور في قوم ، وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش وإدمانه يثقل القرآن على القلب ويكرهه على السمع .

                                                                      وسر المسألة أن الغناء قرآن الشيطان ، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب وهذا معنى النفاق . وأيضا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن ، وصاحب الغناء بين أمرين إما أن ينتهك فيكون فاجرا أو يظهر النسك فيكون منافقا ، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما ينافي الدين من اللهو والآلات .

                                                                      وأيضا فمن علامات النفاق قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة ، وهذه صفة المفتونين بالغناء .

                                                                      وأيضا المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله عن المنافقين ، وصاحب [ ص: 221 ] السماع يفسد قلبه وحاله من حيث إنه يصلحه . والمغني يدعو القلب إلى فتنة الشهوات والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات .

                                                                      قال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب .

                                                                      وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده بلغني عن الثقات أن صوت المعازف واستماع الأغاني ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء . انتهى كلامه مختصرا من الإغاثة .

                                                                      وحديث عبد الله بن مسعود ليس من رواية اللؤلؤي . وقال المزي في الأطراف : لم يذكره أبو القاسم وهو في رواية أبي الحسن بن العبد وغيره . انتهى .

                                                                      قال الشوكاني : قد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها ، فذهب الجمهور إلى التحريم ، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع . كذا قال الشوكاني في النيل ، وقد أشبع الكلام في هذه المسألة في ذلك الكتاب إشباعا حسنا وقال في آخر كلامه : وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه ، والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح ، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ولا سيما إذا كان مشتملا على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف . وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول نسأل الله السداد والثبات .

                                                                      قلت : وأخرج البخاري في كتاب الأشربة عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف .

                                                                      وأخرج ابن ماجه في كتاب الفتن بإسناد صححه ابن القيم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير انتهى .

                                                                      [ ص: 222 ] والمعازف جمع معزفة وهي آلات الملاهي . ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء والذي في صحاحه أنها اللهو وقيل صوت الملاهي . وفي حواشي الدمياطي المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به . ويطلق على الغناء عزف وعلى كل لعب عزف .

                                                                      وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام انتهى .

                                                                      والكوبة هي الطبل كما رواه البيهقي من حديث ابن عباس .

                                                                      والغبيراء اختلف في تفسيرها فقيل الطنبور ، وقيل العود ، وقيل البربط قال ابن الأعرابي الكوبة النرد .

                                                                      وأخرج الترمذي عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل من المسلمين : يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب .

                                                                      وأخرج أحمد عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية والحديث فيه ضعف .

                                                                      قال ابن القيم في الإغاثة : وتسمية الغناء بالصوت الأحمق والصوت الفاجر فهي تسمية الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .

                                                                      أخرج الترمذي من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه فوضعه في حجره ففاضت عيناه ، فقال عبد الرحمن : أتبكي وأنت تنهى الناس؟ قال : إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة الحديث قال الترمذي : حديث حسن .

                                                                      فانظر إلى النهي المؤكد تسمية الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك حتى سماه مزامير الشيطان . وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تسمية الغناء مزمور الشيطان .

                                                                      قال ابن القيم - رحمه الله - : ومن مكائد عدو الله التي كاد بها هو قل نصيبه من العلم [ ص: 223 ] والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين سماع المكاء والتصدية والغناء حتى كانت مزامير الشيطان أحب إليهم من آيات القرآن ، وبلغ منهم أمله من الفسوق والعصيان ولم يزل أنصار الإسلام وطوائف الهدى يحذرون من هؤلاء واقتفاء سبيلهم والمشي على طريقتهم المخالفة لإجماع أئمة الدين كما ذكره الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع قال أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بالعيب . وسئل عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء ، فقال : إنما يفعله عندنا الفساق .

                                                                      وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب ، وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم ، ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة أيضا في المنع منه .

                                                                      وأبو حنيفة أشد الأئمة قولا فيه ومذهبه فيه أغلظ المذاهب ، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها المزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة ، بل قالوا التلذذ به كفر . هذا لفظهم . قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره .

                                                                      وقال أبو يوسف في دار يسمع فيها صوت المعازف والملاهي أدخل فيها بغير إذنهم ؛ لأن النهي عن المنكر فرض ، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض .

                                                                      وأما الشافعي فقال في كتاب القضاء : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ، وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله ، كالقاضي أبي الديب الطبري وابن الصباغ .

                                                                      قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه ولا تصح الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر ولم يذكر فيه خلافا ، وأما الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه سألت أبي عن الغناء فقال : الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ، ثم ذكر قول مالك إنما يفعله عندنا الفساق .

                                                                      قال عبد الله : وسمعت أبي يقول : سمعت القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا .

                                                                      [ ص: 224 ] وقال سليمان التيمي : لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله . انتهى كلام ابن القيم من الإغاثة مختصرا ، وقد أطال الكلام فيه وأجاد .

                                                                      وفي تفسير الإمام ابن كثير تحت قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية لما ذكر الله تعالى حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب .

                                                                      أخرج ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن أبي الصهباء أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية ومن الناس من يشتري لهو الحديث فقال عبد الله بن مسعود الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة .

                                                                      وقال الحسن البصري : نزلت هذه الآية : ومن الناس من يشتري لهو الحديث في الغناء والمزامير . انتهى كلامه مختصرا .

                                                                      وفي كتاب المستطرف في مادة عجل : نقل القرطبي عن سيدي أبي بكر الطرطوشي - رحمهما الله تعالى - أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان فيقرءون من القرآن ثم ينشد لهم الشعر فيرقصون ويطربون ، ثم يضرب لهم بعد ذلك بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أم حرام؟ فقال : مذهب الصوفية أن هذه بطالة وجهالة وضلالة وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله ، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذوا العجل ، فهذه الحالة هي عبادة العجل ، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في جلوسهم كأنما على رءوسهم الطير مع الوقار والسكينة ، فينبغي لولاة الأمر وفقهاء الإسلام أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم . هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى . انتهى .

                                                                      [ ص: 225 ]



                                                                      الخدمات العلمية