الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في غسل الميت

                                                                                                          990 حدثنا أحمد بن منيع حدثنا هشيم أخبرنا خالد ومنصور وهشام فأما خالد وهشام فقالا عن محمد وحفصة وقال منصور عن محمد عن أم عطية قالت توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم فقال اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن واغسلنها بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه فقال أشعرنها به قال هشيم وفي حديث غير هؤلاء ولا أدري ولعل هشاما منهم قالت وضفرنا شعرها ثلاثة قرون قال هشيم أظنه قال فألقيناه خلفها قال هشيم فحدثنا خالد من بين القوم عن حفصة ومحمد عن أم عطية قالت وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء وفي الباب عن أم سليم قال أبو عيسى حديث أم عطية حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال غسل الميت كالغسل من الجنابة وقال مالك بن أنس ليس لغسل الميت عندنا حد مؤقت وليس لذلك صفة معلومة ولكن يطهر وقال الشافعي إنما قال مالك قولا مجملا يغسل وينقى وإذا أنقي الميت بماء قراح أو ماء غيره أجزأ ذلك من غسله ولكن أحب إلي أن يغسل ثلاثا فصاعدا لا يقصر عن ثلاث لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلنها ثلاثا أو خمسا وإن أنقوا في أقل من ثلاث مرات أجزأ ولا نرى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على معنى الإنقاء ثلاثا أو خمسا ولم يؤقت وكذلك قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث وقال أحمد وإسحق وتكون الغسلات بماء وسدر ويكون في الآخرة شيء من كافور

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قال ابن العربي في العارضة : خبر الواحد مقبول في الأحكام الشرعية باتفاق من أهل السنة ، واختلف العلماء هل يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى فرده أبو حنيفة ، وقد بيناه في أصول الفقه وأنه قد تناقض في مسائل قبل فيها خبر الواحد ، ومن هذا الباب غسل الميت إذ ليس في الباب حديث سواه . انتهى .

                                                                                                          قوله : ( أخبرنا خالد ) هو الحذاء ( ومنصور ) هو ابن زاذان ( وهشام ) هو ابن حسان ( فأما خالد وهشام فقالا عن محمد وحفصة ) محمد هذا هو ابن سيرين وحفصة هذه هي بنت سيرين [ ص: 56 ] ( وقال منصور عن محمد ) أي : ولم يذكر حفصة ( عن أم عطية ) فروى خالد وهشام عن محمد وحفصة عن أم عطية ، وروى منصور عن محمد عن أم عطية ، قال الحافظ في الفتح : مدار حديث أم عطية على محمد وحفصة ابني سيرين ، قال ابن المنذر : ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية ، وعليه عول الأئمة .

                                                                                                          قوله : ( توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم ) هي زينب زوج أبي العاص بن الربيع كما في مسلم ، وهو المشهور ، وقيل إنها أم كلثوم زوج عثمان كما في ابن ماجه ، ولفظه : دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم ، وكذا وقع لابن بشكوال في المبهمات عن أم عطية والدولابي في الذرية الطاهرة ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح : فيمكن ترجيح أنها أم كلثوم بمجيئه من طرق متعددة ، ويمكن الجمع بأن تكون أم عطية حضرتهما جميعا ، فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات ( من ذلك ) بكسر الكاف ؛ لأنه خطاب للمؤنث ( إن رأيتن ) أي : إن احتجتن إلى أكثر من ثلاث أو خمس للإنقاء لا للتشهي فافعلنه ، قاله الطيبي ( واغسلنها بماء وسدر ) قال القاضي : هذا لا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات ، والمستحب استعماله في الكرة الأولى ليزيل الأقذار ، ويمنع عنه تسارع الفساد ، ويدفع الهوام ، قال ابن الهمام : الحديث يفيد أن المطلوب المبالغة في التنظيف لا أصل التطهير ، وإلا فالماء كاف فيه ، ولا شك أن تسخين الماء كذلك مما يزيد في تحقيق المطلوب فكان مطلوبا شرعيا ، وعند الشافعي لا يغلي ، قيل يبدأ بالقراح أولا ليبتل ما عليه من الدرن أولا ، فيتم قلعه بالماء والسدر ثم يحصل تطييب البدن بعد النظافة بماء الكافور ، والأولى أن يغسل الأوليان بالماء والسدر كما هو ظاهر كتاب الهداية ، وأخرج أبو داود عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالث بالماء والكافور ، وسنده صحيح كذا في المرقاة .

                                                                                                          قلت : قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث أبي داود هذا نقلا عن النووي : إسناده على شرط البخاري ومسلم . انتهى ، وسكت عنه أبو داود والمنذري .

                                                                                                          تنبيه :

                                                                                                          وقع في المرقاة المطبوعة : قال القاضي : هذا لا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات إلخ ، قلت : الظاهر أن يكون هذا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات بحذف كلمة ( لا ) كما قال الزين بن المنير : ظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل ؛ لأن قوله بماء وسدر يتعلق بقوله اغسلنها انتهى ( كافورا أو شيئا من كافور ) شك من الراوي أي اللفظين قال [ ص: 57 ] والأول محمول على الثاني ؛ لأنه نكرة فيصدق بكل شيء منه ( فآذنني ) بالمد وكسر الذال ، وتشديد النون الأولى أمر لجماعة النساء من الإيذان ، وهو الإعلام ، والنون الأولى أصلية ساكنة ، والثانية ضمير فاعل ، وهي مفتوحة ، والثالثة للوقاية ( فألقى إلينا حقوه ) بفتح المهملة ، ويجوز كسرها بعدها قاف ساكنة ، والمراد به هنا الإزار كما وقع مفسرا في رواية للبخاري ، والحقو في الأصل : معقد الإزار وأطلق على الإزار مجازا قاله الحافظ ( أشعرنها به ) أي : بالحقو في النهاية أي : اجعلنه شعارها ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ؛ لأنه يلي شعره ، قال الطيبي : أي : اجعلن هذا الحقو تحت الأكفان بحيث يلاصق بشرتها ، والمراد إيصال البركة إليها .

                                                                                                          قوله : ( وفي حديث غير هؤلاء ) أي : خالد ومنصور وهشام ( وضفرنا شعرها ) الضفر : فتل الشعر ، قال الطيبي : من الضفيرة ، وهي النسج ، ومنه ضفر الشعر ، وإدخال بعضه في بعض ( ثلاثة قرون ) أي : ثلاث ضفائر ، ووقع في رواية للبخاري ناصيتها وقرنيها أي : جانبي رأسها وفي رواية أخرى للبخاري : أنهن جعلن رأس بنت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ، ثم غسلنه ، ثم جعلنه ثلاثة قرون ( فألقيناه خلفها ) أي : فألقينا الشعر خلف ظهرها ، قال الحافظ في فتح الباري : واستدل به على ضفر شعر الميت خلافا لمن منعه ، فقال ابن القاسم لا أعرف الضفر بل يكف ، وعن الأوزاعي والحنفية : يرسل شعر الميت خلفها وعلى وجهها مفرقا ، قال القرطبي : وكأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية هل استندت فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أم فعلته استحسانا ، كلا الأمرين محتمل ، لكن الأصل أن لا يفعل بالميت شيء من جنس القرب إلا بإذن من الشرع محقق ، ولم يرد ذلك مرفوعا كذا قال ، وقال النووي : الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقريره ، قال الحافظ ابن حجر : وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر عن أم عطية قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أم عطية اغسلنها ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا ، واجعلن لها ثلاثة قرون انتهى . ( وفي الباب عن أم سليم ) لينظر من أخرجه .

                                                                                                          قوله : ( حديث أم عطية حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان .

                                                                                                          [ ص: 58 ] قوله : ( قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال غسل الميت كالغسل من الجنابة ) يعني : يراعى في غسل الميت ما يراعى في الغسل من الجنابة .

                                                                                                          قوله : ( وقال مالك بن أنس : ليس لغسل الميت عندنا حد مؤقت ، وليس لذلك صفة معلومة ) قال مالك في الموطأ : وليس لغسل الميت عندنا حد موصوف ، وليس لذلك صفة معلومة ، ولكن يغسل فيطهر انتهى .

                                                                                                          قلت : بل له حد موصوف وصفة معلومة ، فيغسل الميت وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأى الغاسل ، ويبدأ بميامنه ومواضع الوضوء منه ، ويغسل بماء وسدر ، ويجعل في الغسلة الأخيرة الكافور ، وإن كان الميت امرأة فيضفر شعر رأسها ثلاثة قرون ، ويجعل خلفها ، وهذه الصفات كلها قد جاءت في حديث أم عطية الصحيح المتفق عليه فلا حاجة إلى القول المجمل بأنه ليس لغسل الميت حد موصوف ، وليس لذلك صفة معلومة ( قال الشافعي إنما قال مالك قولا مجملا يغسل وينقى ) ولم يفصل ولم يبين ( وإذا أنقي ) بصيغة المجهول من الإنقاء ( بماء القراح ) قال في القاموس القراح كسحاب : الماء لا يخالطه ثفل من سويق وغيره ، والخالص كالقريح ( ولا يرى ) وفي بعض النسخ أولا يرى بهمزة الاستفهام ( ولم يوقت ) من التوقيت أي : لم يحدد ، والمعنى أن المقصود من قوله اغسلنها ثلاثا أو خمسا هو الإنقاء لا التحديد ، فإن حصل النقاء والطهارة بأقل من ثلاث مرات أجزأ .

                                                                                                          قوله : ( وكذلك قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث ) المراد بالفقهاء : الفقهاء من المحدثين كسفيان الثوري ، والإمام مالك ، والإمام الشافعي ، والإمام أحمد بن حنبل ، وعبد الله بن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم ، وقد صرح الترمذي بذلك في كتاب العلل .

                                                                                                          [ ص: 59 ] قوله : ( وقال أحمد وإسحاق وتكون الغسلات بماء وسدر ) أي : قالا بكون جميع الغسلات بالماء والسدر ؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم واغسلنها بماء وسدر وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل ( ويكون في الآخرة ) أي : في الغسلة الآخرة ( شيء من كافور ) قال ابن العربي : وقد قالوا الأولى بالماء القراح ، والثانية بالماء والسدر ، والثالثة بالماء والكافور ، وقد قال النخعي : لا يجعل الكافور في الماء ، وليس هذا في لفظ الحديث ، ولم يقتضه بلفظ الحديث من خلط الماء بالسدر والكافور انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية