الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          1429 حدثنا بذلك الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثم اعترف فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع شهادات فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبك جنون قال لا قال أحصنت قال نعم قال فأمر به فرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ولم يصل عليه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن المعترف بالزنا إذا أقر على نفسه أربع مرات أقيم عليه الحد وهو قول أحمد وإسحق وقال بعض أهل العلم إذا أقر على نفسه مرة أقيم عليه الحد وهو قول مالك بن أنس والشافعي وحجة من قال هذا القول حديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله إن ابني زنى بامرأة هذا الحديث بطوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يقل فإن اعترفت أربع مرات

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حتى شهد على نفسه أربع شهادات ) أي : أقر على نفسه كأنه شهد عليها بإقراره بما يوجب الحد أربع مرات ( قال أبك جنون ) ؟ قال النووي : إنما قال أبك جنون لتحقق حاله فإن الغالب أن الإنسان لا يصر على إقرار ما يقتضي هلاكه مع أن له طريقا في سقوط الإثم بالتوبة ، وهذا مبالغة في تحقيق حال المسلم وصيانة دمه ، وإشارة إلى أن إقرار المجنون باطل ، وأن الحدود لا تجري عليه ( قال أحصنت ) بتقدير همزة الاستفهام أي : هل تزوجت ؟ ( فلما أذلقته الحجارة ) أي : أصابته بحدها فعقرته من ذلق الشيء طرفه ( فر ) أي : هرب ( فأدرك ) بصيغة المجهول أي : أدركه الناس من الإدراك بمعنى اللحوق ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ) أي : أثنى عليه ( ولم يصل عليه ) وفي رواية البخاري من طريق محمود بن غيلان عن عبد الرزاق : وصلى عليه ، قال الحافظ في الفتح ، قال المنذري في حاشية السنن : رواه ثمانية أنفس عن عبد الرزاق فلم يذكروا قوله : وصلى عليه ، وذكر الحافظ روايات هؤلاء الأنفس ، وغيرهم ، ثم قال : فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس منهم من سكت عن الزيادة ومنهم من صرح بنفيها . انتهى ، قال الإمام البخاري في صحيحه بعد رواية هذا الحديث : ولم يقل يونس ، وابن جريج عن [ ص: 579 ] الزهري : فصلى عليه . سئل أبو عبد الله : صلى عليه يصح ؟ قال : رواه معمر . فقيل له : رواه غير معمر ؟ قال لا . انتهى ، قال الحافظ : وقد اعترض عليه في جزمه بأن معمرا روى هذه الزيادة مع أن المنفرد بها إنما هو محمود بن غيلان عن عبد الرزاق ، وقد خالفه العدد الكثير من الحفاظ فصرحوا بأنه لم يصل عليه ، لكن ظهر لي أن البخاري قويت عنده رواية محمود بالشواهد . فقد أخرج عبد الرزاق أيضا ، وهو في السنن لأبي قرة من وجه آخر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قصة ماعز قال : فقيل يا رسول الله أتصلي عليه ؟ قال " لا " قال : فلما كان من الغد قال : صلوا على صاحبكم ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس . فهذا الخبر يجمع الاختلاف فتحمل رواية النفي على أنه لم يصل عليه حين رجم ، ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني ، قال الحافظ : ويتأيد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة الجهنية التي زنت ورجمت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها فقال له عمر : أتصلي عليها ، وقد زنت ؟ فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم . انتهى . قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري . قوله : ( وهو قول أحمد وإسحاق ) وهو قول أبي حنيفة ، وحجتهم أحاديث الباب قال في شرح السنة : يحتج بهذا الحديث يعني : بحديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب من اشترط التكرار في الإقرار بالزنا حتى يقام عليه الحد ، ويحتج أبو حنيفة بمجيئه من الجوانب الأربعة على أنه يشترط أن يقر أربع مرات في أربعة مجالس ، ومن لم يشترط التكرار قال : إنما رده مرة بعد أخرى لشبهة داخلته في أمره ، ولذلك دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أبك جنون " ؟ قال : لا ، وفي رواية : فقال : " أشربت خمرا " ؟ فقام رجل فاستنكهه فلا يجد منه ريح الخمر فقال : " أزنيت " قال : نعم . فأمر به فرجم فرد مرة بعد أخرى للكشف عن حاله ، لا أن التكرار فيه شرط . انتهى . ( وقال بعض أهل العلم : إذا أقر على نفسه مرة أقيم عليه الحد ، وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ) واختاره الشوكاني في النيل وأجاب عن جميع ما استدل به الأولون ، وقال في آخر كلامه : وإذا قد تقرر لك عدم اشتراط الأربع عرفت عدم اشتراط ما ذهبت إليه الحنفية من أن الأربع لا تكفي أن تكون في مجلس واحد ، بل لا بد أن تكون في أربعة مجالس ؛ لأن تعدد الأمكنة فرع تعدد الإقرار الواقع فيها ، وإذا لم يشترط الأصل تبعه الفرع في ذلك ، وأيضا لو فرضنا اشتراط كون الإقرار أربعا لم يستلزم كون مواضعه متعددة : أما عقلا فظاهر ؛ لأن الإقرار أربع مرات ، أو أكثر منها في موضع واحد من غير انتقال مما لا يخالف في إمكانه عاقل وأما شرعا فليس في الشرع ما يدل [ ص: 580 ] على أن الإقرار الواقع بين يديه صلى الله عليه وسلم وقع من رجل في أربعة مواضع فضلا عن وجود ما يدل على أن ذلك شرط ، ثم أجاب الشوكاني عن الروايات التي استدل بها الحنفية على اشتراط تعدد مواضع الإقرار ، فإن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى النيل ( وحجة من قال هذا القول حديث أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رجلين اختصما إلخ ) سيأتي هذا الحديث بطوله في باب الرجم على الثيب ، وأجاب الأولون عن هذا الحديث بأنه مطلق قيدته الأحاديث التي فيها أنه وقع الإقرار أربع مرات ، وقد رد الشوكاني هذا الجواب في النيل فقال : الإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ ، وجميع الأحاديث التي ذكر فيها تربيع الإقرار أفعال ، ولا ظاهر لها ، وغاية ما فيها جواز تأخير إقامة الحد بعد وقوع الإقرار مرة إلى أن ينتهي إلى أربع ، ثم لا يجوز التأخير بعد ذلك ، وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك في قصة ماعز لقصد التثبت كما يشعر بذلك قوله له : أبك جنون ؟ ثم سؤاله بعد ذلك لقومه . فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك ، وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفا بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات . انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية