الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة

                                                                                                          165 حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن بشير بن ثابت عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة حدثنا أبو بكر محمد بن أبان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة بهذا الإسناد نحوه قال أبو عيسى روى هذا الحديث هشيم عن أبي بشر عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير ولم يذكر فيه هشيم عن بشير بن ثابت وحديث أبي عوانة أصح عندنا لأن يزيد بن هارون روى عن شعبة عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة ) وقد تقدم في حديث جبريل وغيره أن أول وقتها حين يغيب الشفق ، وهو مجمع عليه ، وأما آخر وقتها فالثابت من الأحاديث الصحيحة الصريحة أنه إلى نصف الليل ، ففي حديث عبد الله بن عمرو : فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل ، رواه مسلم ، وفي حديث أبي هريرة الذي تقدم : وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل ، ويفهم من حديث أبي قتادة " إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى " رواه مسلم أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر ، قال النووي : قوله فإنه وقت إلى نصف الليل معناه وقت لأدائها اختيارا ، وأما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر لحديث أبي قتادة عند مسلم " إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى " وقال الإصطخري : إذا ذهب نصف الليل صارت قضاء ، ودليل الجمهور حديث أبي قتادة المذكور . انتهى كلام النووي . قال الحافظ في الفتح : عموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح وعلى قول الشافعي الجديد في المغرب ، فللإصطخري أن يقول إنه مخصوص بالحديث المذكور وغيره من الأحاديث في العشاء ، قال : ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثا صريحا يثبت ، انتهى .

                                                                                                          [ ص: 430 ] تنبيه : ذكر النيموي في آثار السنن أثرين يدلان على أن وقت العشاء إلى طلوع الفجر : أحدهما أثر أبي هريرة عن عبيد بن جريج أنه قال لأبي هريرة : ما إفراط صلاة العشاء؟ قال طلوع الفجر ، رواه الطحاوي . وثانيهما : أثر عمر عن نافع بن جبير قال : كتب عمر إلى أبي موسى : وصل العشاء أي الليل شئت ولا تغفلها ، رواه الطحاوي ورجاله ثقات ثم قال : دل الحديثان على أن وقت العشاء يبقى بعد مضي نصف الليل إلى طلوع الفجر ولا يخرج بخروجه فبالجمع بين الأحاديث كلها يثبت أن وقت العشاء من حين دخوله إلى نصف الليل أفضل وبعضه أولى من بعض ، وأما بعد نصف الليل فلا يخلو من الكراهة . انتهى ، وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص 122 : تكلم الطحاوي في شرح الآثار هاهنا كلاما حسنا ملخصه أنه قال يظهر من مجموع الأحاديث أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر ، وذلك أن ابن عباس وأبا موسى والخدري رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها إلى ثلث الليل ، وروى أبو هريرة وأنس أنه أخرها حتى انتصف الليل ، وروى ابن عمر أنه أخرها حتى ذهب سدس الليل . وروت عائشة أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل . وكل هذه الروايات في الصحيح ، قال : فثبت بهذا أن الليل كله وقت لها ولكنه على أوقات ثلاثة فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فأفضل وقت صليت فيه ، وأما بعد ذلك إلى أن يتم نصف الليل ففي الفضل دون ذلك ، وأما بعد نصف الليل فدونه ، ثم ساق بسنده عن نافع بن جبير قال كتب عمر إلى أبي موسى " وصل العشاء أي الليل شئت ولا تغفلها " ولمسلم في قصة التعريس عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس في النوم تفريط إنما التفريط أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى فدل على بقاء الأولى إلى أن يدخل وقت الأخرى ، وهو طلوع الثاني ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لا شك في أن كلام الطحاوي هذا حسن ، لو كان في هذا حديث مرفوع صحيح ، ولكن لم أجد حديثا مرفوعا صحيحا ، أما حديث أبي قتادة المرفوع فقد عرفت فيما تقدم أن عمومه مخصوص بالإجماع في الصبح ، فلقائل أن يقول إنه مخصوص بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وما في معناه ، وأما حديث عائشة المرفوع أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل فليس المراد بعامة الليل أكثره كما زعم الطحاوي وغيره بل المراد كثير منه ، قال النووي في شرح مسلم : قوله في رواية عائشة " إنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل " ، أي كثير منه ، وليس المراد أكثر ولا بد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وسلم إنه لوقتها ، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل ؛ لأنه لم يقل أحد من العلماء إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل ، انتهى ، وأما الحديثان اللذان ذكرهما النيموي فهما ليسا مرفوعين ، بل أحدهما قول عمر وفي سنده حبيب بن أبي ثابت وعليه مداره ، وهو مدلس ، ورواه عن نافع بن جبير بالعنعنة ، قال الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين حبيب بن أبي ثابت [ ص: 431 ] الكوفي ، تابعي مشهور يكثر التدليس ، وثانيهما قول أبي هريرة فيحتمل أنه قال به بناء على عموم حديث أبي قتادة ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي : لا خلاف بين الأمة أن أول وقت صلاة العشاء غروب الشفق ، واختلفوا في آخرها : فمنهم من قال إلى ثلث الليل ، قال به مالك والشافعي ، ومنهم من قال : إنه إلى شطر الليل ، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا أنه أخرها إلى شطر الليل ، وقولا له ، قال وقت العشاء إلى شطر الليل في صحيح مسلم ، فلا قول بعد هذا والله أعلم . انتهى كلام ابن العربي .

                                                                                                          قوله : ( عن أبي بشر ) بن أبي إياس بن أبي وحشية ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير ، وضعفه شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد ، قاله الحافظ في التقريب .

                                                                                                          ( عن بشير بن ثابت ) الأنصاري مولاهم بصري ثقة ، وقال ابن حبان : وهم من قال فيه بشر بغير ياء .

                                                                                                          ( عن حبيب بن سالم ) الأنصاري مولى النعمان بن بشير وكاتبه ، لا بأس به ، من أوساط التابعين .

                                                                                                          قوله : ( أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة ) هذا من باب التحديث بنعمة الله عليه بزيادة العلم مع ما فيه من حمل السامعين على اعتماد مرويه ، ولعل وقوع هذا القول منه بعد موت غالب أكابر الصحابة وحفاظهم الذين هم أعلم بذلك منه .

                                                                                                          ( لسقوط القمر ) أي وقت غروبه أو سقوطه إلى الغروب ( لثالثة ) أي في ليلة ثالثة من الشهر .

                                                                                                          قوله : ( عن أبي عوانة بهذا الإسناد ) أي بالإسناد المتقدم ، وحديث النعمان بن بشير المذكور [ ص: 432 ] أخرجه أبو داود والنسائي والدارمي قال ابن العربي : حديث النعمان صحيح ، وإن لم يخرجه الإمامان فإن أبا داود أخرجه عن مسدد ، والترمذي عن أبي عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن بشير بن ثابت عن حبيب بن سالم ، فأما حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير فقال أبو حاتم هو ثقة ، وأما بشير بن ثابت فقال يحيى بن معين إنه ثقة ، ولا كلام فيمن دونهما ، وإن كان هشيم قد رواه عن أبي بشير عن حبيب بن سالم بإسقاط أبي بشير وما ذكرناه أصح ، وكذلك رواه شعبة وغيره ، وخطأ من أخطأ في الحديث لا يخرجه عن الصحة . انتهى كلام ابن العربي .




                                                                                                          الخدمات العلمية