الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          1792 حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن إسمعيل بن مسلم عن عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية عن حبان بن جزء عن أخيه خزيمة بن جزء قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبع فقال أو يأكل الضبع أحد وسألته عن الذئب فقال أويأكل الذئب أحد فيه خير قال أبو عيسى هذا حديث ليس إسناده بالقوي لا نعرفه إلا من حديث إسمعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسمعيل وعبد الكريم أبي أمية وهو عبد الكريم بن قيس بن أبي المخارق وعبد الكريم بن مالك الجزري ثقة

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حدثنا أبو معاوية ) اسمه محمد بن خازم الضرير الكوفي ( عن إسماعيل بن مسلم ) هو المكي أبو إسحاق البصري ( عن حبان ) بكسر الحاء المهملة ( بن جزء ) بفتح الجيم بعدها زاي [ ص: 408 ] ثم همزة صدوق من الثالثة قاله في التقريب وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته ، أخرج له الترمذي وابن ماجه حديثا واحدا في السؤال عن الضب والأرنب والضبع والذئب ، وضعف إسناده الترمذي انتهى .

                                                                                                          ( عن أخيه خزيمة بن جزء ) صحابي لم يصح الإسناد إليه قاله في التقريب . قال في تهذيب التهذيب في ترجمته : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أخواه خالد وحبان . قال أبو منصور البارودي لم يثبت حديثه لأنه من حديث عبد الكريم أبي أمية . وقال البخاري في التاريخ لما ذكر حديثه في الحشرات : فيه نظر . وقال البغوي : ولا أعلم له غيره . وقال الأزدي لا يحفظ من روى عنه إلا " حبان " ولا يحفظ له غير هذا الحديث ، قال وفي إسناده نظر انتهى .

                                                                                                          قوله : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبع فقال : ويأكل الضبع أحد ؟ ) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري ، وفي المشكاة : أو يأكل الضبع أحد ؟ في رواية ابن ماجه ومن يأكل الضبع ( وسألته عن أكل الذئب ) بالهمز ويبدل ( ويأكل ) وفي المشكاة أو يأكل أي أجهلت حكمه ويأكل ( الذئب أحد فيه خير ) أي صلاح وتقوى ، صفة أحد واستدل بهذا الحديث من قال بحرمة الضبع ، والحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث ليس إسناده بالقوي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية ، وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية ) قال الزيلعي في نصب الراية بعد نقل كلام الترمذي هذا ، وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل بن مسلم ضعيف ، وابن أبي المخارق ساقط وحبان بن جزء مجهول انتهى . وقال الحافظ في التقريب : إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق ضعيف الحديث وقال في التلخيص : وأما ما رواه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال : أيأكل الضبع أحد ، فضعيف لاتفاقهما على ضعف عبد الكريم أبي أمية والراوي عنه إسماعيل بن مسلم انتهى ( وهو عبد الكريم بن قيس هو ابن أبي المخارق ) قال في التقريب : عبد الكريم بن أبي المخارق بضم الميم وبالخاء المعجمة أبو أمية المعلم البصري نزيل [ ص: 409 ] مكة واسم أبيه قيس ، وقيل : طارق ضعيف من السادسة . وقد شارك الجزري في بعض المشايخ فربما التبس به على من لا فهم له انتهى ( وعبد الكريم بن مالك الجزري ثقة ) قال في التقريب : عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد مولى بني أمية وهو الخضرمي بالخاء والضاد المعجمتين نسبة إلى قرية من اليمامة ثقة متقن من السادسة انتهى .

                                                                                                          تنبيه :

                                                                                                          قال القاري في المرقاة معترضا على قول الترمذي : ليس إسناده بالقوي ما لفظه : وفيه أن الحسن أيضا يستدل به على أن اجتهاد المستند إليه سابقا يدل على أنه صحيح في نفس الأمر وإن كان ضعيفا بالنسبة إلى إسناد واحد من المحدثين ، ويقويه رواية ابن ماجه ولفظه : ومن يأكل الضبع ، ويؤيده أنه ذو ناب من السباع فأكله حرام ، ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : الضبع لست آكله ولا أحرمه كما رواه الشيخان وغيرهما فيفيد ما اختاره مالك من أنه يكره أكله ، إذ المكروه عنده ما أثم آكله ولا يقطع بتحريمه ، ومقتضى قواعد أئمتنا أن أكله مكروه كراهة تحريم لا أنه حرام محض لعدم دليل قطعي مع اختلاف فقهي انتهى كلام القاري بلفظه .

                                                                                                          قلت : في كلام القاري هذا أوهام وأغلاط ، فأما قوله إن الحسن أيضا يستدل به ، ففيه أنه لا شك أن الحديث الحسن يستدل به ، لكن حديث خزيمة بن جزء هذا ليس بحسن بل هو ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما عرفت . وأما قوله إن اجتهاد المستند إليه سابقا يدل على أنه صحيح في نفس الأمر إلخ ففاسد ، وقد بينا فساده فيما سبق . وأما قوله ويقويه رواية ابن ماجه ولفظه : ومن يأكل الضبع . ففيه أن في رواية ابن ماجه أيضا عبد الكريم فكيف يقويه . وأما قوله إنه ذو ناب من السباع فممنوع وسند المنع حديث جابر المذكور في الباب ، ولو سلم أنه ذو ناب من السباع فحرمته ممنوعة لهذا الحديث . وأما قوله ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته ، فيه أن هذا إذا كان دليل الحرمة ، ودليل الإباحة كلاهما صحيحين ، وأما إذا كان دليل الحرمة ضعيفا ، ودليل الإباحة صحيحا كما في ما نحن فيه فكون الحرمة أحوط ممنوع . وأما قوله إن قوله عليه الصلاة والسلام : الضبع لست آكله ولا أحرمه كما رواه الشيخان وغيرهما يفيد إلخ ففيه وهم فاحش فإنه لم يرو الشيخان ولا غيرهما : الضبع لست آكله ولا أحرمه بل رووا الضب لست آكله ولا أحرمه والضب غير الضبع . قال الحافظ ابن القيم في الإعلام : وأما الضبع فروي عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصا لعموم أحاديث التحريم كما خصصت العرايا لأحاديث المزابنة ، وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب ، وقالوا : وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن أكل كل ذي ناب [ ص: 410 ] من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة ، وأبي ثعلبة الخشني قالوا : وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه .

                                                                                                          قالوا : ولفظ الحديث يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ، ولا يلزم من كونها صيدا جواز أكلها فرأى جابر أن كونها صيدا يدل على أكلها فأفتى به من قوله ، ورفع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعه من كونها صيدا . فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي عمارة قال : قلت لجابر بن عبد الله آكل الضبع ؟ قال : نعم ، قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم ، قلت : أسمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : نعم . وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا ، ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمارة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الضبع ، فقال : هي صيد وفيها كبش .

                                                                                                          قالوا : وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفع : الضبع صيد إذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل ، قال الحاكم : حديث صحيح ، وقوله : ويؤكل يحتمل الوقف والرفع ، وإذا احتمل ذلك لم يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم .

                                                                                                          قالوا : ولو كان حديث جابر صريحا في الإباحة لكان فردا ، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ، ادعى الطحاوي وغيره تواترها ، فلا يقدم حديث جابر عليها .

                                                                                                          قالوا : والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه ، وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات ، وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه .

                                                                                                          قالوا : والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوات الأنياب ، والضبع لا يخرج عن هذا وهذا .

                                                                                                          قالوا : وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدى في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها ، وقد قال بكر بن محمد : سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلبا ، فقال : عليه الجزاء . هي صيد ولكن لا يؤكل ، وقال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله سئل عن الثعلب فقال : الثعلب سبع ، فقد نص على أنه سبع وأنه يفدى في الإحرام ، ولما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشا ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به .

                                                                                                          [ ص: 411 ] والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا : ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع ، وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما ، وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعني شريعة التنزيل لا شريعة التأويل ومن تأمل ألفاظه صلى الله عليه وسلم الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد ، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب ، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها ، فإن الغاذي شبيه بالمغذي ، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ، ولا تعد الضبع من السباع لغة وعرفا انتهى ما في الإعلام .

                                                                                                          قلت : في أقوال المحرمين التي نقلها الحافظ ابن القيم خدشات ، أما قولهم إن حديث الضبع انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ففيه أنه ثقة ولم يتفرد به قال الحافظ في التلخيص : وأعله ابن عبد البر بعبد الرحمن بن أبي عمار فوهم لأنه وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ثم إنه لم ينفرد به انتهى . وقال في الفتح : وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها انتهى .

                                                                                                          وأما قولهم : لفظ الحديث يحتمل معنيين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ، ففيه أن ظاهر لفظ الحديث يدل على أن جابرا رضي الله تعالى عنه رفع الأكل ، وكونها صيدا كليهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده رواية أحمد بلفظ : سألت جابر بن عبد الله عن الضبع فقال : حلال ، فقلت : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم .

                                                                                                          وأما قولهم : والضبع لا يخرج عن هذا وهذا ، ففيه أن حديث جابر المذكور صحيح ثابت قابل للاحتجاج ، فخروج الضبع عن هذا وهذا ظاهر ، وللفريقين مقالات أخرى في ذكرها طول .




                                                                                                          الخدمات العلمية