الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء أن الإقامة مثنى مثنى

                                                                                                          194 حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عقبة بن خالد عن ابن أبي ليلى عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد قال كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة قال أبو عيسى حديث عبد الله بن زيد رواه وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام وهذا أصح من حديث ابن أبي ليلى وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد وقال بعض أهل العلم الأذان مثنى مثنى والإقامة مثنى مثنى وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة قال أبو عيسى ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان قاضي الكوفة ولم يسمع من أبيه شيئا إلا أنه يروي عن رجل عن أبيه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في أن الإقامة مثنى مثنى ) ، أي مرتين مرتين .

                                                                                                          قوله : ( حدثنا أبو سعيد الأشج ) اسمه عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي ، ثقة ، من صغار العاشرة ، كذا في التقريب . قلت : روى عنه الأئمة الستة ( نا عقبة بن خالد ) بن عقبة السكوني أبو مسعود الكوفي المجدر بالجيم ، صدوق صاحب حديث ( عن ابن أبي ليلى ) هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه المقرئ ، حدث عن الشعبي وعطاء والحكم ونافع وعمرو بن مرة وطائفة ، وكان أبوه من كبار التابعين فلم يدرك الأخذ عنه ، حدث عنه شعبة والسفيانان وزائدة ووكيع وخلائق ، قاله الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وقال : حديثه في وزن الحسن ولا يرتقي إلى الصحة ؛ لأنه ليس بالمتقن عندهم ، انتهى .

                                                                                                          ( عن عمرو بن مرة ) بن عبد الله بن طارق الجملي المرادي أبي عبد الله الكوفي الأعمى ثقة عابد كان لا يدلس ورمي بالإرجاء ، وهو من رجال الكتب الستة .

                                                                                                          ( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ) الأنصاري المدني ، ثم الكوفي ، ثقة من الثانية ، كذا في التقريب ، وقال في الخلاصة : أدرك مائة وعشرين من الصحابة الأنصاريين ، مات سنة ثلاث وثمانين .

                                                                                                          قوله : ( شفعا شفعا ) أي مثنى مثنى ( في الأذان والإقامة ) استدل به من قال بتثنية الإقامة ، وحديث إفراد الإقامة أصح وأثبت وقد ثبت بطريقين صحيحين عن عبد الله بن زيد إفراد الإقامة كما عرفت فيما تقدم .

                                                                                                          قوله : ( حديث عبد الله بن زيد رواه وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد [ ص: 495 ] الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام ) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، فقال حدثنا وكيع ، ثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران فقام على حائط فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى ، وأخرجه البيهقي في سننه عن وكيع به ، قال في الإمام : وهذا رجاله رجال الصحيح وهو متصل على مذهب الجماعة في عدالة الصحابة وأن جهالة أسمائهم لا تضر ، كذا في نصب الراية .

                                                                                                          قلت : في إسناده الأعمش وهو مدلس ورواه عن عمرو بن مرة بالعنعنة .

                                                                                                          ( وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ، ثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . إلخ ) لم أقف عليه .

                                                                                                          قوله : ( وهذا أصح من حديث ابن أبي ليلى ) أي المذكور في الباب .

                                                                                                          ( وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد ) قال البيهقي في كتاب المعرفة : حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قد اختلف عليه فيه فروي عنه عن عبد الله بن زيد وروي عنه عن معاذ بن جبل وروي عنه قال حدثنا أصحاب محمد ، قال ابن خزيمة : عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ولا من عبد الله بن زيد ، وقال محمد بن إسحاق لم يسمع منهما ولا من بلال ، فإن معاذا توفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة ، وبلال توفي بدمشق سنة عشرين ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى لست بقين من خلافة عمر ، وكذلك قاله الواقدي ومصعب الزبيري ، فثبت انقطاع حديثه . انتهى كلامه ، كذا في نصب الراية ص 140 ج 1 ، وحديث عبد الله بن زيد هذا له روايات :

                                                                                                          فمنها ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه .

                                                                                                          ومنها ما أخرجه الطحاوي بلفظ : قال أخبرني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد الأنصاري رأى في المنام الأذان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : علمه بلالا ، فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى وقعد قعدة ، قال بعضهم : إسناده صحيح . [ ص: 496 ] قلت : في إسناده أيضا الأعمش ورواه عن عمرو بن مرة بالعنعنة .

                                                                                                          ومنها ما أخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق أبي العميس قال : سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري يحدث عن أبيه عن جده أنه رأى الأذان مثنى مثنى والإقامة مثنى مثنى ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : علمهن بلالا ، قال : فتقدمت فأمرني أن أقيم ، قال الحافظ في الدراية : إسناده صحيح ، قلت : ذكر تثنية الإقامة في هذا الحديث غير محفوظ ، فإنه قد تفرد به أبو أسامة عن أبي العميس ورواه عبد السلام بن حرب عنه فلم يذكر فيه تثنية الإقامة ، وعبد السلام بن حرب أعلم الكوفيين بحديث أبي العميس وأكثرهم عنه رواية ، قال الزيلعي في نصب الراية نقلا عن البيهقي : وقد رواه عبد السلام بن حرب عن أبي العميس فلم يذكر فيه تثنية الإقامة ، وعبد السلام أعلم الكوفيين بحديث أبي العميس وأكثرهم عنه رواية ، انتهى .

                                                                                                          ومنها ما أخرجه أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ في صحيحه عن عمرو بن شبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي عن عبد الله بن زيد الأنصاري سمعت أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أذانه وإقامته مثنى مثنى .

                                                                                                          قلت : في إسناده انقطاع ؛ لأن الشعبي لم يثبت سماعه من عبد الله بن زيد ، وفيه المغيرة وهو ابن مقسم وهو مدلس ، وروى هذا الحديث عن الشعبي بالعنعنة .

                                                                                                          وفي الباب عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة ، أخرجه الترمذي في باب الترجيع في الأذان والنسائي والدارمي .

                                                                                                          قوله : ( قال بعض أهل العلم الأذان مثنى مثنى ، والإقامة مثنى مثنى ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة ) وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه ، قال الشوكاني في النيل : وقد اختلف الناس في ذلك ، فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ، ولفظ قد قامت الصلاة فإنها مثنى مثنى ، واستدلوا بهذا الحديث -يعني حديث أنس المذكور في الباب المتقدم- وحديث ابن عمر -يعني الذي أشار إليه الترمذي في الباب المتقدم- وحديث عبد الله بن زيد -يعني الذي ذكرناه في الباب المتقدم- قال الخطابي : مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد [ ص: 497 ] الإسلام أن الإقامة فرادى ، قال أيضا : مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله " قد قامت الصلاة " إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها ، وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك ، قال النووي : ولنا قول شاذ أنه يقول في التكبير الأول الله أكبر مرة وفي الأخيرة مرة ، ويقول " قد قامت الصلاة " مرة ، قال ابن سيد الناس : وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة عمر بن الخطاب ، وابنه ، وأنس ، والحسن البصري ، والزهري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، ويحيى بن يحيى ، وداود ، وابن المنذر ، قال البيهقي : ممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وابن سيرين ، وعمر بن عبد العزيز ، قال البغوي : هو قول أكثر العلماء ، وذهبت الحنفية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين ، واستدلوا بما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ : كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي ، وقال الحاكم والبيهقي : الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة ، وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ، ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه : وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام ، قال الترمذي وهذا أصح ، انتهى .

                                                                                                          وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر ، وعلي ، وعثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي بن كعب ، والمقداد ، وبلال ، وكعب بن عجرة ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وصهيب ، وخلق يطول ذكرهم ، وقال أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من الأنصار ، فلا علة للحديث ؛ لأنه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند ، وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند ، ومحمد بن عبد الرحمن ، وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره ، وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا فهي مخالفة غير قادحة .

                                                                                                          واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلالا كان يثني الأذان والإقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع ، قال الحافظ : ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالا ، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ قال : أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أذن لأبي بكر في حياته ولم يؤذن في زمان عمر ، وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر ، وأما ما رواه أبو داود من أن بلالا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر فكان بها حتى مات فهو مرسل ، وفي إسناده عطاء الخراساني [ ص: 498 ] وهو مدلس ، وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى ، وفي إسناده ضعف ، قال الحافظ وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائي وغيره . انتهى ، وحديث أبي محذورة حديث صحيح ساقه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين ، وقال هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي ، وسيأتي ما خرجه عنه الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة وهو حديث صححه الترمذي وغيره وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة ؛ لأنه بعد فتح مكة ؛ لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح وبلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان فيكون ناسخا ، وقد روى أبو الشيخ أن بلالا أذن بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرتين مرتين وأقام مثل ذلك ، إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها ، وأحاديث إفراد الإقامة ، وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين ، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم ، لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها ، قال أبو عمر بن عبد البر : ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير ، وقالوا : كل ذلك جائز ؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعا في أول الأذان ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال ، انتهى .

                                                                                                          قلت : ما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من جواز إفراد الإقامة وتثنيتها هو القول الراجح المعول عليه ، بل هو المتعين عندي ، ولما كانت أحاديث إفراد الإقامة أصح وأثبت من أحاديث تثنيتها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين كان الأخذ بها أولى ، وأما قول الشوكاني : " لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم " ، ففيه نظر كما لا يخفى على المتأمل .

                                                                                                          قوله : ( وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة ) وهو قول أبي حنيفة ، قال الحازمي في كتاب الاعتبار في باب تثنية الإقامة بعد ذكر حديث أبي محذورة الذي فيه وعلمني الإقامة مرتين ، ما لفظه : اختلف أهل العلم في هذا الباب ، فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى مثنى وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة ، واحتجوا في الباب بهذا الحديث -يعني حديث أبي محذورة - ورأوه محكما ناسخا لحديث بلال ، ثم ذكر حديث بلال بإسناده عن أنس بلفظ : إنهم ذكروا الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نوروا نارا أو اضربوا ناقوسا ، فأمر بلالا أن يشفع الأذان [ ص: 499 ] ويوتر الإقامة ، وقال هذا حديث صحيح عليه ، ثم قال : قالوا وهذا ظاهر في النسخ ؛ لأن بلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان على ما دل عليه حديث أنس ، وأما حديث أبي محذورة فكان عام حنين وبين الوقتين مدة مديدة ، قال وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فرأوا أن الإقامة فرادى وذهبوا في ذلك إلى حديث أنس وأجابوا عن حديث أبي محذورة بوجوه منها :

                                                                                                          أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة في جميع جهات الترجيحات على ما قدرناه في مقدمة الكتاب ، وغير مخفي على من الحديث صناعته أن حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس في جهة واحدة في الترجيحات فضلا عن الجهات كلها .

                                                                                                          ومنها أن جماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ، بدليل ما أخبرنا به أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفقيه فذكر بإسناده عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أخبرني جدي عبد الملك بن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، وقال عبيد الله بن الزبير الحميدي عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك قال : أدركت جدي وأبي وأهلي يقيمون فيقولون الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر لا إله إلا الله ، ونحو ذلك حكى الشافعي عن ولد أبي محذورة في بقاء أبي محذورة وولده على إفراد الإقامة دلالة ظاهرة على وهم وقع فيما روي في حديث أبي محذورة من تثنية الإقامة قال : ثم لو قدرنا أن هذه الزيادة محفوظة وأن الحديث ثابت ، ولكنه منسوخ وأذان بلال هو آخر الأذانين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته . انتهى كلام الحازمي .

                                                                                                          قلت : قد تكلم القاضي الشوكاني على هذه الوجوه التي ذكرها الحازمي في الجواب عن حديث أبي محذورة فقال : وقد أجاب القائلون بإفراد الإقامة عن حديث أبي محذورة بأجوبة :

                                                                                                          منها أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة ، وهذا ممنوع فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الأصحية .

                                                                                                          ومنها أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ورووا من طريق أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ وأخرجه البخاري في تاريخه والدارقطني وابن خزيمة ، وهذا الوجه غير نافع ؛ لأن القائلين بأنها غير محفوظة غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ وقد حفظ غيرهم من الأئمة كما تقدم ، ومن علم حجة على من لا يعلم ، وأما رواية إيتار الإقامة عن أبي محذورة فليست كرواية التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة ، ومن الأجوبة أن تثنية الإقامة لو فرض أنها محفوظة وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة ، فإن أذان بلال هو آخر الأمرين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 500 ] لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته ، قالوا : وقد قيل لأحمد بن حنبل أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد ؛ لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة؟ قال : أليس قد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد؟ وهذا أنهض ما أجابوا به ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالا أذن بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأفرد الإقامة ، ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي ، فإن ثبت ذلك كان دليلا لمذهب من قال بجواز الكل ويتعين المصير إليها ؛ لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ . انتهى كلام الشوكاني .

                                                                                                          قلت : قد ثبت أن بلالا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإفراد الإقامة وقد ثبت أيضا أنه أذن حياته صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من حنين أمر بلالا بتثنية الإقامة ومنعه من إفرادها فالظاهر هو ما قال الإمام أحمد ، والله تعالى أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية