الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في فضل الطهور

                                                                                                          2 حدثنا إسحق بن موسى الأنصاري حدثنا معن بن عيسى القزاز حدثنا مالك بن أنس ح وحدثنا قتيبة عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء أو نحو هذا وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وهو حديث مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وأبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان وأبو هريرة اختلف في اسمه فقالوا عبد شمس وقالوا عبد الله بن عمرو وهكذا قال محمد بن إسمعيل وهو الأصح قال أبو عيسى وفي الباب عن عثمان بن عفان وثوبان والصنابحي وعمرو بن عبسة وسلمان وعبد الله بن عمرو والصنابحي الذي روى عن أبي بكر الصديق ليس له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ويكنى أبا عبد الله رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث والصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الصنابحي أيضا وإنما حديثه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( باب ما جاء في فضل الطهور ) بضم الطاء ، وقد تقدم قول أكثر أهل اللغة أنه يقال : الطهور بالضم إذا أريد به الفعل ويقال بالفتح إذا أريد به الماء ، والمراد هنا الفعل .

                                                                                                          قوله : ( حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري ) الخطمي المديني الفقيه الحافظ الثبت أبو موسى قاضي نيسابور ، سمع سفيان بن عيينة وعبد السلام بن حرب ومعن بن عيسى وكان من أئمة الحديث صاحب سنة ، ذكره أبو حاتم فأطنب في الثناء عليه ، وقال النسائي ثقة ، حدث عنه مسلم والترمذي والنسائي وآخرون ، قيل : إنه توفي بجوسية بليدة من أعمال حمص في سنة أربع وأربعين ومائتين ، كذا في تذكرة الحفاظ . وقال في التقريب : ثقة متقن .

                                                                                                          فائدة : قال الحافظ الذهبي في الميزان : إذا قال الترمذي : " ابن الأنصاري" فيعني به إسحاق بن موسى الأنصاري . انتهى . قلت : الأمر كما قال الذهبي ، لكن يقول الترمذي : " الأنصاري " لا " ابن الأنصاري " كما قال في باب ماء البحر أنه طهور : حدثنا قتيبة عن مالك ح وحدثنا الأنصاري قال : [ ص: 24 ] حدثنا معن إلخ . وكما قال في باب التغليس بالفجر : حدثنا قتيبة عن مالك بن أنس ح قال : ونا الأنصاري نا معن إلخ ثم قال : قال الأنصاري : فمر النساء متلففات بمروطهن إلخ ، فالحاصل أن الترمذي إذا قال : في شيوخه الأنصاري فيعني به إسحاق بن موسى الأنصاري لا غير ، فاحفظ هذا فإنه نافع .

                                                                                                          تنبيه : قد غفل صاحب الطيب الشذي عما ذكرنا آنفا من أن الترمذي إذا قال : الأنصاري فيعني به إسحاق بن موسى الأنصاري فلذلك قد وقع في مغلطة عظيمة; وهي أنه قال في باب ماء البحر أنه طهور ما لفظه : قوله : الأنصاري هو يحيى بن سعيد الأنصاري كما يظهر من تصريح الحافظ في التلخيص كما سيأتي في تصحيح الحديث . انتهى . قلت العجب أنه من هذه الغفلة الشديدة كيف جوز أن الأنصاري هذا هو يحيى بن سعيد الأنصاري ، والأنصاري هذا هو شيخ الترمذي فإنه قال : حدثنا الأنصاري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري من صغار التابعين ، فبين الترمذي وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطايا فهل يمكن أن يقول الترمذي حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، كلا ثم كلا ثم العجب على العجب أنه قال كما يظهر من تصريح الحافظ في التلخيص ، ولم يصرح الحافظ في التلخيص أن الأنصاري هذا هو يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولا يظهر هذا من كلامه البتة ، وقد وقع هو في هذا في مغلطة أخرى ، والأصل أن الرجل إذا تكلم في غير فنه يأتي بمثل هذه العجائب .

                                                                                                          ( نا معن بن عيسى ) أبو يحيى المدني القزاز الأشجعي مولاهم ، أخذ عن ابن أبي ذئب ومعاوية بن صالح ومالك وطبقتهم ، روى عنه ابن أبي خيثمة وهارون الجمال وخلق ، قال أبو حاتم : هو أحب إلي من ابن وهب وهو أثبت أصحاب مالك ، توفي في شوال سنة 198 ثمان وتسعين ومائة ، كذا في تذكرة الحفاظ ، وقال في التقريب : ثقة ثبت .

                                                                                                          ( نا مالك بن أنس ) هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المثبتين ، تقدم ترجمته في المقدمة .

                                                                                                          ( عن سهيل بن أبي صالح ) المدني صدوق تغير حفظه بآخره ، روى له البخاري مقرونا وتعليقا ، من السادسة ، مات في خلافة المنصور ، كذا في التقريب ، قلت : قال الذهبي في الميزان : وقال غيره - أي غير ابن معين - : إنما أخذ عنه مالك قبل التغير ، وقال الحاكم : روى له مسلم الكثير وأكثرها في الشواهد . انتهى .

                                                                                                          ( عن أبيه ) أي أبي صالح واسمه ذكوان كما صرح به الترمذي في هذا الباب ، قال الحافظ في التقريب : ذكوان أبو صالح السمان الزيات المدني ثقة ثبت وكان يجلب الزيت إلى الكوفة ، من الثالثة مات سنة 101 إحدى ومائة .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن أبا صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان ، واسمه ذكوان ، وهذا ظاهر لمن [ ص: 25 ] له أدنى مناسبة بفن الحديث ، وقد صرح به الترمذي في هذا الباب ، وقد وقع صاحب الطيب الشذي هاهنا في مغلطة عظيمة فظن أن أبا صالح والد سهيل هذا هو أبو صالح الذي اسمه مينا ، حيث قال : قوله عن أبيه مولى ضباعة ، لين الحديث من الثالثة ، واسمه مينا بكسر الميم . انتهى . والعجب كل العجب أنه كيف وقع في هذه المغلطة مع أن الترمذي قد صرح في هذا الباب بأن أبا صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان .

                                                                                                          ثم حكم الترمذي بأن هذا الحديث حسن صحيح ، فكيف ظن أن أبا صالح والد سهيل هو أبو صالح الذي اسمه مينا ، وهو لين الحديث .

                                                                                                          قوله : " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن " هذا شك من الراوي ، وكذا قوله مع الماء أو مع قطر الماء ، قاله النووي وغيره ( فغسل وجهه ) عطف على توضأ عطف تفسير ، أو المراد إذا أراد الوضوء وهو الأوجه ( خرجت من وجهه ) جواب إذا ( كل خطيئة نظر إليها ) أي إلى الخطيئة يعني إلى سببها إطلاقا لاسم المسبب على السبب مبالغة ( بعينيه ) قال الطيبي : تأكيد ( مع الماء ) أي مع انفصاله ( أو مع آخر قطر الماء أو نحو هذا ) قيل : أو ، لشك الراوي وقيل لأحد الأمرين ، والقطر إجراء الماء وإنزال قطره ، كذا في المرقاة ، قلت : " أو " هاهنا للشك لا لأحد الأمرين يدل عليه قوله أو نحو هذا ، قال القاضي : المراد بخروجها مع الماء المجاز والاستعارة في غفرانها ؛ لأنها ليست بأجسام فتخرج حقيقة . وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي : قوله خرجت الخطايا يعني غفرت لأن الخطايا هي أفعال وأعراض لا تبقى فكيف توصف بدخول أو بخروج؟ ولكن البارئ لما أوقف المغفرة على الطهارة الكاملة في العضو ضرب لذلك مثلا بالخروج . انتهى . قال السيوطي في قوت المغتذي بعد نقل كلام ابن العربي هذا ، ما لفظه : بل الظاهر حمله على الحقيقة ، وذلك أن الخطايا تورث في الباطن والظاهر سوادا يطلع عليه أرباب الأحوال والمكاشفات ، والطهارة تزيله ، وشاهد ذلك ما أخرجه المصنف والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه وذلك الران الذي ذكره الله في القرآن كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وأخرج أحمد وابن خزيمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج وإنما سودته خطايا المشركين قال السيوطي : فإذا أثرت الخطايا في الحجر ففي جسد فاعلها أولى ، فإما أن يقدر : خرج من وجهه أثر خطيئته أو السواد الذي أحدثته ، وإما أن يقال : إن الخطيئة [ ص: 26 ] نفسها تتعلق بالبدن على أنها جسم لا عرض بناء على إثبات عالم المثال ، وأن كل ما هو في هذا العالم عرض له صورة في عالم المثال ، ولهذا صح عرض الأعراض على آدم عليه السلام ، ثم الملائكة وقيل لهم : " أنبئوني بأسماء هؤلاء " وإلا فكيف يتصور عرض الأعراض لو لم يكن لها صورة تشخص بها ، قال : وقد حققت ذلك في تأليف مستقل وأشرت إليه في حاشيتي التي علقتها على تفسير البيضاوي ، ومن شواهده في الخطايا ما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقه فكلما ركع وسجد تساقطت عنه وأخرج البزار والطبراني عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم يصلي وخطاياه مرفوعة على رأسه كلما سجد تحاتت عنه انتهى كلام السيوطي .

                                                                                                          قلت لا شك في أن الظاهر هو حمله على الحقيقة وأما إثبات عالم المثال فعندي فيه نظر فتفكر .

                                                                                                          قوله : ( بطشتها ) أي أخذتها ( حتى يخرج نقيا من الذنوب ) قال ابن الملك : أي حتى يفرغ المتوضئ من وضوئه طاهرا من الذنوب ، أي التي اكتسبها بهذه الأعضاء أو من جميع الذنوب من الصغائر وقيل حتى يخرج المتوضئ إلى الصلاة طاهرا من الذنوب ، قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي : قوله حتى يخرج مترتب على تمام الوضوء ؛ لأن تقديره : وهكذا باقي أعضاء الوضوء ، كما يفيده رواية مسلم ، فإذا غسل رجليه الحديث ، وروايات غيره . انتهى . قلت الأمر كما قال السندي ، فروى مالك والنسائي عن عبد الله الصنابحي مرفوعا : إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه ، وإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه ، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه ، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه ، حتى تخرج من أظفار رجليه ، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له كذا في المشكاة قال الطيبي : فإن قيل : ذكر لكل عضو ما يخص به من الذنوب وما يزيلها عن ذلك والوجه مشتمل على العين والأنف والأذن فلم خصت العين بالذكر؟ أجيب بأن العين طليعة القلب ورائده فإذا ذكرت أغنت عن سائرها . انتهى . قال ابن حجر المكي - معترضا على الطيبي - : كون العين طليعة كما ذكره لا ينتج الجواب عن تخصيص خطيئتها بالمغفرة كما هو جلي ، [ ص: 27 ] بل الذي يتجه في الجواب عن ذلك أن سبب التخصيص هو أن كلا من الفم والأنف والأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه ، فكانت متكفلة بإخراج خطاياه ، بخلاف العين ، فإنه ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه فخصت خطيئتها بالخروج عند غسله دون غيرها مما ذكر . ذكره القاري في المرقاة ص 64 ج 2 . انتهى . قلت الأمر كما قال ابن حجر ، يدل عليه رواية مالك والنسائي المذكورة ، قال ابن العربي في العارضة : الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى ، قال : وهذا التكفير إنما هو للذنوب المتعلقة بحقوق الله سبحانه ، وأما المتعلقة بحقوق الآدميين فإنما يقع النظر فيها بالمقاصة مع الحسنات والسيئات .

                                                                                                          قوله : ( وهذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه مسلم في صحيحه ، وتقدم في المقدمة حد الحسن والصحيح مفصلا .

                                                                                                          قوله : ( وأبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان ) بشدة الميم أي بائع السمن وكان يجلب الزيت والسمن إلى الكوفة ( واسمه ذكوان ) المدني مولى جويرية الغطفانية ، شهد الدار وحصار عثمان وسأل سعد بن أبي وقاص وسمع أبا هريرة وعائشة وعدة من الصحابة ، وعنه ابنه سهيل والأعمش وطائفة ، ذكره أحمد فقال : ثقة من أجل الناس وأوثقهم ، قال الأعمش : سمعت من أبي صالح ألف حديث توفي سنة إحدى ومائة .

                                                                                                          قوله : ( وأبو هريرة اختلفوا في اسمه فقالوا : عبد شمس وقالوا : عبد الله بن عمرو وهكذا قال محمد بن إسماعيل وهذا الأصح ) قال الحافظ ابن حجر في التقريب : أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه قيل عبد الرحمن بن صخر وقيل ابن غنم إلى أن ذكر تسعة عشر قولا ثم قال : هذا الذي وقفنا عليه من الاختلاف ، واختلف في أيها أرجح فذهب الأكثرون إلى الأول أي عبد الرحمن بن صخر وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن عامر . انتهى ، وفي المرقاة شرح المشكاة : قال الحاكم أبو أحمد : أصح شيء عندنا في اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر وغلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له ، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 28 ] ثم لزمه وواظب عليه راغبا في العلم راضيا بشبع بطنه وكان يدور معه حيث ما دار ، وقال البخاري : روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل فمنهم ابن عباس وابن عمرو وجابر وأنس ، قيل : سبب تلقيبه بذلك ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال : كنت أحمل يوما هرة في كمي فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذه؟ فقلت هرة ، فقال : يا أبا هريرة . انتهى ما في المرقاة ، وذكر الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ أنه قال : كناني أبي بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما فوجدت أولاد هرة وحشية فلما أبصرهن وسمع أصواتهن أخبرته فقال : أنت أبو هر ، وكان اسمي عبد شمس . انتهى .

                                                                                                          قلت : روى الترمذي في هذا الكتاب في مناقب أبي هريرة بسنده عن عبد الله بن أبي رافع قال : قلت لأبي هريرة لم كنيت أبا هريرة؟ قال : أما تفرق مني؟ قلت : بلى والله إني لأهابك ، قال : كنت أرعى غنم أهلي وكانت لي هريرة صغيرة فكنت أضعها بالليل في شجرة فإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها فكنوني أبا هريرة . هذا حديث حسن غريب .

                                                                                                          فائدة : اختلف في صرف أبي هريرة ومنعه ، قال القاري في المرقاة : جر هريرة هو الأصل وصوبه جماعة لأنه جزء علم ، واختار آخرون منع صرفه كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم; لأن الكل صار كالكلمة الواحدة . انتهى ، قلت وقد صرح غير واحد من أهل العلم أن منعه من الصرف هو الجاري على ألسنة أهل الحديث فالراجح هو منعه من الصرف ، وكان هو الجاري على ألسنة جميع شيوخنا غفر الله لهم وأدخلهم جنة الفردوس الأعلى ، ويؤيد منع صرفه منع صرف ابن داية علما للغراب ، قال قيس بن ملوح المجنون :


                                                                                                          أقول وقد صاح ابن داية غدوة ببعد النوى لا أخطأتك الشبائك

                                                                                                          قال القاضي البيضاوي في تفسيره المسمى بأنوار التنزيل : في تفسير قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن رمضان مصدر رمض إذا احترق فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون كما منع داية في ابن داية علما للغراب للعلمية والتأنيث . انتهى .

                                                                                                          فائدة : قد تفوه بعض الفقهاء الحنفية بأن أبا هريرة لم يكن فقيها ، وقولهم هذا باطل مردود عليهم ، وقد صرح أجلة العلماء الحنفية بأنه رضي الله عنه كان فقيها ، قال صاحب السعاية شرح شرح الوقاية : وهو من العلماء الحنفية ردا على من قال منهم : إن أبا هريرة كان غير فقيه ، ما لفظه : كون أبي هريرة غير فقيه غير صحيح ، بل الصحيح أنه من الفقهاء الذين كانوا يفتون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به ابن الهمام في تحرير الأصول وابن حجر في الإصابة في أحوال الصحابة . انتهى . وفي بعض حواشي نور الأنوار أن أبا هريرة كان فقيها صرح به ابن الهمام في التحرير ، [ ص: 29 ] كيف وهو لا يعمل بفتوى غيره ، وكان يفتي بزمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وكان يعارض أجلة الصحابة كابن عباس فإنه قال : إن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين فرده أبو هريرة وأفتى بأن عدتها وضع الحمل ، كذا قيل . انتهى .

                                                                                                          قلت : كان أبو هريرة رضي الله عنه من فقهاء الصحابة ومن كبار أئمة الفتوى ، قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ : أبو هريرة الدوسي اليماني الحافظ الفقيه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة والعبادة والتواضع . انتهى . وقال الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين : ثم قام بالفتوى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم برك الإسلام وعصابة الإيمان وعسكر القرآن وجند الرحمن أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم ، وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط وكان المكثرون منهم سبعة : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا : أبو بكر الصديق وأم سلمة وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة . . إلخ ، فلا شك في أن أبا هريرة رضي الله عنه كان فقيها من فقهاء الصحابة ومن كبار أئمة الفتوى .

                                                                                                          فإن قيل : قد قال إبراهيم النخعي أيضا : إن أبا هريرة لم يكن فقيها ، والنخعي من فقهاء التابعين . قلت : قد نقم على إبراهيم النخعي لقوله إن أبا هريرة لم يكن فقيها ، قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمته : وكان لا يحكم العربية ربما لحن ونقموا عليه قوله لم يكن أبو هريرة فقيها . انتهى .

                                                                                                          عبرة : قال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي في بحث حديث المصراة المروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما : قال بعضهم : هذا الحديث لا يقبل لأنه يرويه أبو هريرة وابن عمر ولم يكونا فقيهين ، وإنما كانا صالحين فروايتهما إنما تقبل في المواعظ لا في الأحكام ، وهذه جرأة على الله واستهزاء في الدين عند ذهاب حملته وفقد نصرته ، ومن أفقه من أبي هريرة وابن عمر؟ ومن أحفظ منهما خصوصا من أبي هريرة وقد بسط رداءه وجمعه النبي صلى الله عليه وسلم وضمه إلى صدره فما نسي شيئا أبدا ونسأل الله المعافاة من مذهب لا يثبت إلا بالطعن على الصحابة رضي الله عنهم ، ولقد كنت في جامع المنصور من مدينة السلام في مجلس علي بن محمد الدامغاني قاضي القضاة ، فأخبرني به بعض أصحابنا وقد جرى ذكر هذه المسألة أنه تكلم فيها بعضهم يوما وذكر هذا الطعن في أبي هريرة فسقطت من السقف حية عظيمة في وسط المسجد فأخذت في سمت المتكلم بالطعن ونفر الناس وارتفعوا وأخذت الحية تحت السواري فلم يدر أين ذهبت ، فارعوى من بعد ذلك من الترسل في هذا القدح . انتهى .

                                                                                                          [ ص: 30 ] قوله : ( وفي الباب عن عثمان وثوبان والصنابحي وعمرو بن عبسة وسلمان وعبد الله بن عمرو ) أما حديث عثمان : فأخرجه الشيخان بلفظ : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره وأما حديث ثوبان فأخرجه مالك وأحمد وابن ماجه والدارمي . وأما حديث الصنابحي فأخرجه مالك والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرطهما ولا علة له والصنابحي صحابي مشهور كذا في الترغيب للمنذري . وأما حديث عمرو بن عبسة فأخرجه مسلم ، وأما حديث سلمان فأخرجه البيهقي في شعب الإيمان بلفظ : إذا توضأ العبد تحاتت عنه ذنوبه كما تحات ورق هذه الشجرة . وأما حديث عبد الله بن عمرو فلم أقف عليه . وفي الباب عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سوى المذكورين ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب ، والهيثمي في مجمع الزوائد .

                                                                                                          قوله : ( والصنابحي هذا الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الطهور هو عبد الله الصنابحي ) هذه العبارة ليست في النسخ المطبوعة ، إنما هي في بعض النسخ القلمية الصحيحة ، وحديث عبد الله الصنابحي هذا أخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت خطاياه من فيه الحديث . قال الحافظ ابن عبد البر : قد اختلف على عطاء فيه ، قال بعضهم : عن عبد الله الصنابحي ، وقال بعضهم : عن أبي عبد الله الصنابحي وهو الصحيح ، كذا في المحلى ، وقال البخاري : وهم مالك في قوله عبد الله الصنابحي ، وإنما هو أبو عبد الله ، كذا في إسعاف المبطأ ( والصنابحي الذي روى عن أبي بكر الصديق ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ويكنى أبا عبد الله ) قال الحافظ في التقريب : عبد الرحمن بن عسيلة بمهملة مصغرا المرادي أبو عبد الله الصنابحي ثقة من كبار التابعين قدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام . مات في خلافة عبد الملك . انتهى ( رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق ) روى البخاري في صحيحه عن أبي الخير عن الصنابحي أنه قال : متى هاجرت؟ قال : خرجنا من اليمن مهاجرين فقدمنا الجحفة فأقبل راكب فقلت له الخبر الخبر ، [ ص: 31 ] فقال : دفنا النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمس ، قلت : هل سمعت في ليلة القدر شيئا قال : أخبرني بلال مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في السبع في العشر الأواخر ( والصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له : الصنابحي أيضا ) قال الحافظ في التقريب : الصنابح بضم أوله ثم نون وموحدة ومهملة ابن الأعسر الأحمسي صحابي سكن الكوفة ، ومن قال فيه : الصنابحي فقد وهم . انتهى ( وإنما حديثه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إني مكاثر بكم الأمم ) قال في مجمع البحار : كاثرته أي غلبته وكنت أكثر منه ، يعني إني أباهي بأكثرية أمتي على الأمم السالفة ( فلا تقتتلن بعدي ) بصيغة النهي المؤكد بنون التأكيد من الاقتتال ، قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي : فإن قلت ما وجه ترتب قوله لا تقتتلن بعدي على المكاثرة؟ قلت وجهه أن الاقتتال موجب لقطع النسل إذ لا تناسل من الأموات فيؤدي إلى قلة الأمة فينافي المطلوب ، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فإن قلت : المقتول ميت بأجله فلا وجه لقطع النسل بسبب الاقتتال ، قلت : إما أن يقال : إن الإقدام على الاقتتال مفض بقطع النسل ، فالنسل باعتبار فعلهم الاختياري ، أو يقال : يكون لهم أجلان أجل على تقدير الاقتتال وأجل بدونه ، ويكون الثاني أطول من الأول وبالاقتتال يقصر الأجل فتقل الأمة ، وهذا يرد عليه أن عند الله لا يكون إلا أجل واحد . انتهى كلام أبي الطيب . وحديث الصنابحي هذا أخرجه أحمد في مسنده ص 351 ج 4 بألفاظ .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أنه يفهم من كلام الترمذي المذكور أمران : أحدهما أن عبد الله الصنابحي الذي روى في فضل الطهور صحابي ، والثاني أن عبد الله الصنابحي هذا غير الصنابحي الذي اسمه عبد الرحمن بن عسيلة وكنيته أبو عبد الله ، لكنه ليس هذان الأمران متفقا عليهما ، بل في كل منهما اختلاف ، قال الحافظ في التقريب : عبد الله الصنابحي مختلف في وجوده ، فقيل صحابي مدني ، وقيل هو أبو عبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة ، وقال ابن أبي حاتم في مراسيله : عبد الله الصنابحي هم ثلاثة فالذي يروي عنه عطاء بن يسار هو عبد الله الصنابحي ولم تصح صحبته . انتهى . وقال السيوطي في إسعاف المبطأ : عبد الله الصنابحي ويقال : أبو عبد الله مختلف في صحبته ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعبادة بن الصامت ، وعنه عطاء بن يسار ، وقال البخاري : وهم مالك في قوله عبد الله الصنابحي وإنما هو أبو عبد الله واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال غير واحد ، وقال يحيى بن معين : عبد الله الصنابحي يروي عنه المدنيون يشبه أن تكون له صحبة . انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية