الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة

                                                                                                          219 حدثنا أحمد بن منيع حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء حدثنا جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف قال فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه فقال علي بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا فقالا يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا قال فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة قال وفي الباب عن محجن الديلي ويزيد بن عامر قال أبو عيسى حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق قالوا إذا صلى الرجل وحده ثم أدرك الجماعة فإنه يعيد الصلوات كلها في الجماعة وإذا صلى الرجل المغرب وحده ثم أدرك الجماعة قالوا فإنه يصليها معهم ويشفع بركعة والتي صلى وحده هي المكتوبة عندهم [ ص: 3 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 3 ] قوله : ( نا يعلى بن عطاء ) العامري ، ويقال : الليثي الطائفي ثقة من الرابعة ( نا جابر بن يزيد بن الأسود ) السوائي ، ويقال : الخزاعي صدوق من الثالثة ولأبيه صحبة كذا في التقريب .

                                                                                                          قوله : ( شهدت ) أي حضرت ( حجته ) أي حجة الوداع ( في مسجد الخيف ) هو مسجد مشهور بمنى ، قال الطيبي : الخيف ما انهدر من غليظ الجبل وارتفع عن المسيل ، يعني هذا وجه تسميته به ( فلما قضى صلاته ) أي أداها وسلم منها ( انحرف ) قال القاري : أي انصرف عنها . قلت : والظاهر أن المعنى انحرف عن القبلة ، وقال ابن حجر : أي جعل يمينه للمأمومين ويساره للقبلة كما هو السنة ( فإذا هو ) أي النبي صلى الله عليه وسلم " علي " اسم فعل " بهما " أي ائتوني بهما وأحضروهما عندي ( ترعد ) بالبناء للمجهول أي تحرك من أرعد الرجل إذا أخذته الرعدة وهي الفزع والاضطراب ( فرائصهما ) جمع الفريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها وهي ترجف عند الخوف أي تتحرك وتضطرب ، والمعنى يخافان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في رحالنا ) أي في منازلنا ( فلا تفعلا ) أي كذلك ثانيا ( فصليا معهم ) أي مع أهل المسجد ( فإنها لكما نافلة ) فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة [ ص: 4 ] نافلة ، وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى ; لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، قال ابن عبد البر : قال جمهور الفقهاء : إنما يعيد الصلاة مع الإمام في جماعة من صلى وحده في بيته أو في غير بيته ، وأما من صلى في جماعة وإن قلت فلا يعيد في أخرى ، قلت أو كثرت ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية له ، وهذا لا يخفى فساده ، قال : ومن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهم ، ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم : لا تصلى صلاة في يوم مرتين انتهى ، وذهب الأوزاعي وبعض أصحاب الشافعي وهو قول الشافعي في القديم إلى أن الفريضة هي الثانية إذا كانت الأولى فرادى ، واستدلوا بما أخرجه أبو داود عن يزيد بن عامر ، قال : جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة ، فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه جالسا ، فقال : ألم تسلم يا يزيد ؟ قال : بلى ، يا رسول الله ، قد سلمت ، قال : فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم ، قال : إني كنت قد صليت في منزلي ، وأنا أحسب أن قد صليتم ، فقال : إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة ، ولكنه قد ضعفه النووي ، وقال البيهقي : إن حديث يزيد بن الأسود ، يعني حديث الباب أثبت منه وأولى ، ورواه الدارقطني بلفظ : ويجعل التي صلى في بيته نافلة ، وقال : هي رواية ضعيفة شاذة انتهى ، وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث الباب على من صلى الصلاة الأولى في جماعة ، وحمل هذا على من صلى منفردا كما هو الظاهر من سياق الحديثين ويكونان مخصصين لحديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حبان بلفظ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين على فرض شموله لإعادة الفريضة من غير فرق بين أن تكون الإعادة بنية الافتراض أو التطوع . وأما إذا كان النهي مختصا بإعادة الفريضة بنية الافتراض فقط فلا يحتاج إلى الجمع بينه وبين حديث الباب كذا في النيل .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن محجن ) بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم صحابي قليل الحديث . وأخرج حديثه مالك في الموطأ بلفظ : أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة [ ص: 5 ] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ورجع ومحجن في مجلسه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما منعك أن تصلي مع الناس ، ألست برجل مسلم ؟ قال : بلى ، يا رسول الله ، ولكن كنت قد صليت في أهلي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس وإن كنت قد صليت ، ورواه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم ( ويزيد بن عامر ) أخرج حديثه أبو داود ، وتقدم لفظه .

                                                                                                          قوله : ( حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح ) أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه وأخرجه أيضا الدارقطني ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه ابن السكن ، قال الحافظ في التلخيص : كلهم من طريق يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد بن الأسود ، عن أبيه ، وقال الشافعي في القديم : إسناده مجهول . قال البيهقي : لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه ولا لابنه جابر راو غير يعلى ، قال الحافظ : يعلى من رجال مسلم ، وجابر ثقة وثقه النسائي وغيره ، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى أخرجه ابن منده في المعرفة من طريق بقية ، عن إبراهيم بن ذي حماية ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر انتهى .

                                                                                                          قوله : ( فإنه يعيد الصلوات كلها في الجماعة ) أي الصلوات الخمس كلها في الجماعة ، لعموم أحاديث الباب ، وللتصريح في حديث يزيد بن الأسود بأن قوله صلى الله عليه وسلم إذا صليتما في رحالكما إلخ كان في صلاة الصبح ، وقال أبو حنيفة : لا يعيد الصبح ولا العصر ولا المغرب لكراهة التطوع بعد صلاة الصبح والعصر ولعدم مشروعية التطوع وترا . قلت : حديث الباب يدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان قد صلى تلك الصلاة ولو كان الوقت وقت كراهة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح ، وإلى ذلك ذهب الشافعي ، فيكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح ومن جوز التخصيص بالقياس الحق ما ساواه من أوقات الكراهة ، وظاهر التقييد بقوله صلى الله عليه وسلم : ثم أتيتما مسجد جماعة ، أن ذلك مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها ، فيحمل المطلق من ألفاظ الحديث على المقيد بمسجد الجماعة ، قاله الشوكاني .

                                                                                                          قوله : ( ويشفع بركعة ) روى ابن أبي شيبة عن علي ، قال إذا أعاد المغرب شفع بركعة ( والتي [ ص: 6 ] صلى وحده هي المكتوبة عندهم ) واستدلوا عليه بحديث يزيد بن أسود المذكور في الباب ، وكذلك وقع في حديث أبي ذر وغيره في آخر الحديث ، حيث قال : ولتجعلها نافلة ، كذا في التلخيص ، قلت : وهذا القول هو الراجح ، وأما قول من قال بأن الفريضة هي الثانية ، فلم يقم عليه دليل صحيح كما قد عرفت .




                                                                                                          الخدمات العلمية