الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في شأن الحشر

                                                                                                          2423 حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا كما خلقوا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم ويؤخذ من أصحابي برجال ذات اليمين وذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن المغيرة بن النعمان بهذا الإسناد فذكر نحوه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح [ ص: 91 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 91 ] ( باب ما جاء في شأن الحشر ) الحشر جمع والمراد به حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعا إلى الموقف قال الله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .

                                                                                                          قوله : ( عن المغيرة بن النعمان ) النخعي الكوفي ثقة من السادسة . قوله ( يحشر الناس ) أي يبعثون ( حفاة ) بضم الحاء جمع حاف ، وهو الذي لا نعل له ولا خف ( عراة ) بضم العين المهملة جمع عار وهو من لا ستر له . قال البيهقي : وقع في حديث أبي سعيد يعني الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ، وقال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ، ويجمع بينهما بأن بعضهم يحشر عاريا ، وبعضهم كاسيا ، أو يحشرون كلهم عراة ، ثم يكسى الأنبياء فأول من يكسى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم .

                                                                                                          وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء ؛ لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها ، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم . وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل . فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال : دفنا أم معاذ بن جبل فأمر بها فكفنت في ثياب جدد ، وقال : أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها . قال وحمله بعض أهل العلم على العمل وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله تعالى : ولباس التقوى ذلك خير وقوله تعالى : وثيابك فطهر على أحد الأقوال وهو قول قتادة . قال معناه : وعملك فأخلصه ويؤكد ذلك حديث جابر رفعه : يبعث كل عبد على ما مات عليه أخرجه مسلم ورجح القرطبي الحمل على ظاهر الخبر ويتأيد بقوله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وقوله تعالى : كما بدأكم تعودون وإلى ذلك الإشارة في حديث الباب كما بدأنا أول خلق نعيده عقب قوله حفاة عراة ، قال : فيحمل ما دل عليه حديث أبي سعيد على الشهداء ؛ لأنهم يدفنون بثيابهم فيبعثون فيها تمييزا لهم عن غيرهم .

                                                                                                          [ ص: 92 ] وقد نقله ابن عبد البر عن أكثر العلماء كذا في الفتح ( غرلا ) بضم المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف وزنه ومعناه ، وهو من بقيت غرلته وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر ( ثم قرأ ) أي استشهادا واعتضادا كما بدأنا أول خلق نعيده الكاف متعلق بمحذوف دل عليه نعيده أي نعيد الخلق إعادة مثل الأول . والمعنى بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذا نعيدهم يوم القيامة وعدا علينا أي لازما لا يجوز الخلف فيه إنا كنا فاعلين أي ما وعدناه وأخبرنا به لا محالة ( وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم ) قال القرطبي في شرح مسلم : يجوز أن يراد بالخلائق من عدا نبينا -صلى الله عليه وسلم- فلم يدخل هو في عموم خطاب نفسه ، وتعقبه تلميذه القرطبي أيضا في التذكرة فقال : هذا حسن لولا ما جاء من حديث علي ، يعني الذي أخرجه ابن المبارك في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن علي قال : أول من يكسى يوم القيامة خليل الله -عليه السلام- قبطيتين ، ثم يكسى محمد -صلى الله عليه وسلم- حلة حيرة عن يمين العرش . قال الحافظ : كذا ورد مختصرا موقوفا .

                                                                                                          وأخرجه أبو يعلى مطولا مرفوعا . وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحو حديث الباب وزاد : " وأول من يكسى من الجنة إبراهيم يكسى حلة من الجنة ، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر . ثم يؤتى بكرسي فيطرح على ساق العرش ، وهو عن يمين العرش " . وفي مرسل عبيد بن عمير عند جعفر الفريابي : يحشر الناس حفاة عراة ، فيقول الله تعالى : أرى خليلي عريانا ، فيكسى إبراهيم ثوبا أبيض ، فهو أول من يكسى قيل الحكمة في كون إبراهيم أول من يكسى أنه جرد حين ألقي في النار . وقيل : لأنه أول من استن التستر بالسراويل . وقد أخرج ابن منده من حديث حيدة رفعه قال : " أول من يكسى إبراهيم يقول الله اكسوا خليلي ليعلم الناس اليوم فضله عليهم " . قال الحافظ : لا يلزم من تخصيص إبراهيم -عليه السلام- بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا -عليه الصلاة والسلام- مطلقا ، انتهى .

                                                                                                          ( ويؤخذ من أصحابي برجال ذات اليمين وذات الشمال ) أي إلى جانب اليمين وإلى جانب الشمال ، قال الحافظ : وبين في حديث أنس الموضع ولفظه : ليردن علي ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، الحديث . وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ( فأقول يا رب أصحابي ) أي هؤلاء أصحابي . ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه : " ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني . وسنده حسن . وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه قاله [ ص: 93 ] الحافظ ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) هذا بيان لقوله : ما أحدثوا بعدك . قال النووي : هذا مما اختلف العلماء في المراد على أقوال .

                                                                                                          أحدها : أن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي -صلى الله عليه وسلم- للسيما التي عليهم ، فيقال ليس هؤلاء ممن وعدت بهم . إن هؤلاء بدلوا بعدك ، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم .

                                                                                                          والثاني : أن المراد من كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ارتد بعده فيناديهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه -صلى الله عليه وسلم- في حياته من إسلامهم فيقال : ارتدوا بعدك .

                                                                                                          والثالث : أن المراد أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام . وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار بل يجوز أن يذادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب . قال أصحاب هذا القول : ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده لكن عرفهم بالسيما وقال الحافظ ابن عبد البر : كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الهوى . قال : وكذلك الظلمة المترفون في الجور وطمس الحق والمعادون بالكبائر قال : وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر انتهى كلام النووي -رحمه الله- ( فأقول كما قال العبد الصالح ) أي عيسى -عليه الصلاة والسلام- ( إن تعذبهم إلخ ) وفي المشكاة : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم وهذه الآية في آخر سورة المائدة . وحديث ابن عباس هذا أخرجه الشيخان أيضا .




                                                                                                          الخدمات العلمية