الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في إعفاء اللحية

                                                                                                          2763 حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى قال أبو عيسى هذا حديث صحيح

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( احفوا الشوارب ) بالحاء المهملة والفاء ثلاثيا ورباعيا من الإحفاء أو الحفو ، والمراد الإزالة قاله الحافظ . قلت : أراد بقوله ثلاثيا ورباعيا ، ثلاثيا مجردا وثلاثيا مزيدا فيه . والشوارب جمع الشارب والمراد به الشعر النابت على الشفة العليا وقد تقدم بيان هذه المسألة مبسوطا في باب قص الشارب ( واعفوا اللحى ) من الإعفاء وهو الترك ، وقد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات اعفوا وأوفوا وأرخوا وارجوا ووفروا ، ومعناها كلها تركها على حالها . قال ابن السكيت وغيره : يقال في جمع اللحية لحى ، ولحى بكسر اللام وضمها لغتان والكسر أفصح . قال الحافظ : قال الطبري ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها ، وقال قوم : إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد ، ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك ، وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل ، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله . وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال : كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة ، وقوله نعفي بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافرا ، وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر ، فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبلة بفتحتين : وهي ما طال من شعر اللحية ، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك . ثم حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا ، فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف . وعن الحسن البصري : أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش ، وعن عطاء نحوه ، قال وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها ، قال وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة ، وأسنده عن جماعة واختار قول عطاء وقال : إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها ، لعرض نفسه لمن يسخر به . واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها . انتهى . ثم تكلم الحافظ على هذا الحديث وقد تقدم كلامه في الباب المتقدم ثم قال : وقال [ ص: 39 ] عياض يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها ، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن ، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها كذا قال . وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها ، قال والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره ، وكان مراده بذلك في غير النسك لأن الشافعي نص على استحبابه فيه .

                                                                                                          قلت : لو ثبت حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المذكور في الباب المتقدم لكان قول الحسن البصري وعطاء أحسن الأقوال وأعدلها ، لكنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به . وأما قول من قال : إنه إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد ، واستدل بآثار ابن عمر وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم فهو ضعيف ; لأن أحاديث الإعفاء المرفوعة الصحيحة تنفي هذه الآثار .

                                                                                                          فهذه الآثار لا تصلح للاستدلال بها مع وجود هذه الأحاديث المرفوعة الصحيحة ، فأسلم الأقوال هو قول من قال بظاهر أحاديث الإعفاء وكره أن يؤخذ شيء من طول اللحية وعرضها ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          اعلم أن أثر ابن عمر الذي أشار إليه الطبري أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ : وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته ، فما فضل أخذه . قال الحافظ : هو موصول بالسند المذكور إلى نافع وقد أخرجه مالك في الموطأ عن نافع بلفظ : كان ابن عمر إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه ، وفي حديث الباب مقدار المأخوذ . قال الكرماني : لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى : محلقين رءوسكم ومقصرين وخص ذلك من عموم قوله : " ووفروا اللحى " . فحمله على حالة غير حالة النسك . قال الحافظ : الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه . انتهى . وقال في الدراية : قوله إن المسنون في اللحية أن تكون قدر القبضة ، روى أبو داود والنسائي من طريق مروان بن سالم : رأيت ابن عمر يقبض على لحيته ليقطع ما زاد على الكف ، وأخرجه ابن أبي شيبة وابن سعد ومحمد بن الحسن .

                                                                                                          وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة نحوه ، وهذا من فعل هذين الصحابيين يعارضه حديث أبي هريرة مرفوعا : ( احفوا الشوارب واعفوا اللحى ) . أخرجه مسلم . وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا : خذوا الشوارب واعفوا اللحى . ويمكن الجمع بحمل النهي على الاستئصال أو ما قاربه ، بخلاف الأخذ المذكور . ولا سيما أن الذي فعل ذلك هو الذي رواه . انتهى .

                                                                                                          قلت : في هذا الجمع نظر كما لا يخفى .

                                                                                                          [ ص: 40 ] قوله : ( هذا حديث صحيح ) وأخرجه الشيخان .




                                                                                                          الخدمات العلمية